خلف مشاهد مريعة ملؤها دماء الأبرياء ودموع الضحايا والتهجير القسري والجوع جراء حرب ظالمة تعصف بالشعب الفلسطيني في غزة وتلك التي وجد السودانيون أنفسهم مسجونين بين فكيها الطاحنة فجأة في معارك بين أشقاء الوطن الواحد تُخَلِّفُ يوميًا عشرات القتلى والجرحى وآلاف النازحين، والوقائع الرهيبة التي تجري في سوريا وليبيا وغيرها من البلدان التي ما إن يخفت صوت معركة فيها حتى تنفجر أخرى، يتوارى المشهد العراقي، ويكاد يُنسى رغم الدموع التي يذرفها في مياه شط العرب شوقًا إلى حاضنته العربية بعدما تسلَّلت إلى جسده المنهك أصلاً بتبعات أخطاء الأنظمة المتعاقبة على حكم العراق أيادٍ إيرانية عابثة آثمة هيَّأت لها أمريكا فرص التغلغل وساعدتها بتحالف ضمني مع الأحزاب الدينية الطائفية من المذهبين سعيا إلى كبح رغبة العراقيين في صناعة مجتمع يزهى بمكوناته ويكون قويًا عصيًا على ما تخطط له إيران بجعل العراق حديقة خلفية، وهذا ما هي بصدد تشكيله في ظل صمت عربي مطبق ومُخزٍ في آنٍ.

ما يؤسف له أن ذاكرتنا الجمعية قصيرة المدى أو أنها مثقوبة لا تختزن الأوجاع لتعيد إنتاج الحلول، وإلا كيف لنا أن ننسى تضحيات العراق الجسيمة، دولةً ومجتمعًا، في محاربة الدكتاتورية والإرهاب اللذين كانت لهما كلفة عالية جدّا قوامها آلاف من الضحايا وسنوات من التخلف وعقود من الدمار، لنتركه يواجه منفردًا مصيره مع نظام الملالي النهم في ابتلاع الأنظمة العربية؟ وكيف لنا أن ندير وجوهنا عن العراق النازف 180 درجة لندافع عن ميليشيا جلبت الموت والدمار لشعبها؟ كيف لنا أن نسلك مع العراق على هذا النحو والحال أننا نلاحظ الآن أمرًا خطيرًا لعله من الآثار المباشرة للحرب الدائرة رحاها في غزة؛ إذ وجدت الميليشيات المرتبطة بإيران في العراق واليمن ولبنان في هذه الأحداث مدخلاً لتحسين صورتها من بوابة الجهر بالدفاع عن فلسطين ومحاربة إسرائيل في متاجرة رخيصة يُدركها العقلاء ولكنها مع الأسف تنطلي على الرأي العام الواقع أصلاً تحت سطوة التفاعل الوجداني مع الواقع عامة والواقع الفلسطيني على وجه الخصوص. وعلى الرغم من الانتشاء المؤقت الذي أوجدته عملية «طوفان الأقصى»، فها نحن نشهد محاولة إيرانية ومناورة سافرة لتصيير عملية «طوفان الأقصى» شكلاً من أشكال الانتقام من مصرع قاتل العرب سليماني، دون اعتبار أو اهتمام من الرأي العام العربي بما يمكن أن يصدر عن الميليشيات السنية والشيعية المرتبطة عضويًا وعمليًا واستراتيجيًا بالمشروع الإيراني، والمنتظمة معها تحت يافطة ما يُسمّى بالمحور المقاوم.

هذا الوضع الإعلامي اللحظي الذي يستجيب لحرارة العواطف ونيران الساحات وفجائيتها وتبدل المواقف منها يدعو المرء إلى التساؤل: هل إن ما يجري في البلدان العربية الأخرى أقل شأنًا من الذي يجري في فلسطين؟! أليس العراقيون، على سبيل المثال، يقاومون هم أيضًا احتلالاً إيرانيًا صرح كثير من المسؤولين الإيرانيين بحقيقة وقوع العراق في قبضتهم وإدارتهم المباشرة وغير المباشرة لشؤونه الداخلية وتحديدهم لمستوى علاقاته الخارجية؟!

الإيرانيون يستثمرون في القضية الفلسطينية ودلالاتها الدينية ليكرسوا وجودهم في العراق. وهنا سؤال آخر نتوجه به للدول الغربية، أي الدول التي تدعي أنها محراب الديمقراطية وقبلة الحرية، ألا ينبغي أن يكون وقع بيات السودانيين النازحين في العراء من منازلهم متضورين من الجوع والعطش مخلفين وراءهم فواجع إنسانية لها الوقع نفسه لما ألم بالنازحين والمهجرين الأوكرانيين في أوروبا؟ ازدواجية معايير في التعامل مع المشكلات الإنسانية يندى لها الجبين الإنساني وخلاصتها أن الغربي أولى بالاهتمام والرعاية الدولية من العربي الذي لا تنصفه العواطف العربية ولا الحكومات!

لا نرجو أن يفهم من سطورنا هذه أننا ندعو إلى ضم القضية الفلسطينية إلى قائمة القضايا العربية المنسية أو التي هي في طور النسيان وإنما نذكر بأن لنا قضايا على ذات المستوى من الأهمية، والتفريط فيها من مستوى التفريط في القضية الفلسطينية نفسه وليس أقل. نقول ذلك لأنه يجري التعامل مع كثير من القضايا وفق العقلية العربية النمطية التي لا تتعامل مع القضايا الكبرى بما تقتضيه المصلحة القومية العليا.
وعلينا أن نوضح في هذا الإطار بأن ما نسوقه من كلام هنا ليس تقليلاً من هول ما يحصل في فلسطين عموما وفي غزة على وجه الخصوص، وإنما حتى لا ندع لرغبة الأحزاب الراديكالية والميليشيات في بسط هيمنتها على البلدان العربية تتحقق من خلال المشكلات والقضايا التي تستجيب لها العواطف والمشاعر كما هو حاصل الآن في فلسطين، ومن خلال صناعة بطولات وهمية من أعمال الحوثي الإرهابية في البحر الأحمر، وعربدة «حزب الله» في جنوب لبنان، وعبث الميليشيات العراقية الملوثة بالطائفية إيمانًا وسلوكًا بالجسد العراقي المثخن بجراح الدكتاتوريات قديمها وحديثها.

ووفق ما تبنَّته الدول العربية والسلطة الفلسطينية من القرارات الأممية المفضية إلى حل الدولتين، فإنه من المفترض أن تكون القضية الفلسطينية اليوم قد شارفت على نهايتها ووصلت إلى حلولٍ ينبغي أن تكون مرضية للعرب أولاً والإسرائيليين ثانيًا لولا وجود متطرفين في إسرائيل وفلسطين. أعرف أن مثل هذا القول يزعج من آلمتهم مشاهد القسوة والتشرد والجوع جراء الممارسات الوحشية الإسرائيلية، كما هي تؤلمنا، لكن هذا لن يثنينا عن التنبيه إلى أن ذلك لا يخدم إلا مصالح المتطرفين العرب والإسرائيليين.. وهم كثر.