ضيَّع دارون نونياز مهاجم ليفربول فرصَ تهديف متلاحقة، فعلَّق المذيع بأنَّ هذا اللاعبَ يعرف طريقه إلى المرمى حين يتصرَّف غريزياً، أمَّا حين يفكر فإنَّ احتمالَ إضاعتِه فرصَ التهديف كبير.

وفي كتابه «لعبة التنس الداخلية»، يشير مدرب التنس تيموثي غالوي إلى أنَّ صاحب المضرب لا يواجه فقط خَصمَه على الناحية الأخرى من الشبكة، بل يواجه نفسَه في لعبة ذهنية يفرضها عليه عقله الواعي. وتظهر في صورة حوار داخلي يؤدي إلى فقدان التركيز والعصبية والشك في النفس. وتكون النتيجة أداء أسوأ.

يتباهَى الإنسان محقاً بأنَّ ما يميزه عن الكائنات وعيه، والمقصود قدرة عقلِه على تفسير ما حوله. لكن هذا الوعي العقلي ليس إيجابيَّ الأثر دائماً. فيه ثلاث خدع بسيطة قاتلة نعيش معها كل يوم.

خدعة الوعي الأولى ظَنُّ الإنسان أنَّ وعيه يجعله أفضلَ من الحيوان في المطلق، في كل صغيرة وكبيرة. يبدو أنَّ الإنسان يخلط هنا بين نوعين من الوعي: الوعي الفردي والوعي الجمعي؛ إذ الوعي الإنساني ارتقى بالجماعة البشرية ككل بسبب التكامل بين أفرادها. مجموعة ذكية، وأخرى واسعة الحيلة، وثالثة وفيرة القوة العضلية، تتآلف معاً لصالح الجميع. ولا ننتبه هنا إلى مفارقتين: أولاهما على المستوى الفردي، أننا كثيراً ما نحتاج إلى تخفيض مستوى وعينا، وتعزيز تلقائية التصرف؛ أي الاقتراب من التصرف الغرائزي لكي يتحسن أداؤنا. وأنَّ الإنسان الفرد، لو جُرد من أدواته، لن يصمد في مواجهة الوعي المكتسب من الحواس الذي يحمله الحيوان الفرد أينما حلّ.

والمفارقة الثانية على المستوى الجمعي، أننا نحتاج إلى نشر أساطير تعزز لحمتنا الاجتماعية. هذه الأساطير - إن اختبرناها اختباراً مجرداً - مجرد وعي مزيف. الوعي - إذاً - سبب للتقدم أحياناً، وفي أحيان أخرى سبب للتشرذم والشقاق والانحلال والاضمحلال والتدهور. العلم بهذه الخدعة يجعلنا نكفُّ عن التحقير المتواصل للغريزة، للبقاء، للحياة، للنجاة بأنفسنا. لقد حولنا الغريزة من فرط حشونا الأدمغة بالأفكار إلى كلمة سلبية في حد ذاتها، وصار كافياً أن تقول «غرائز» لكي ينفر الناس، أو يتعمدوا تجنبها.

الخدعة الثانية من خدع الوعي اعتقادُ الفرد أنَّ وعيه صورة مرآة لوعي غيره. كأنَّه مقياس يقاس عليه وعي الجميع. نحن مدركون لمثالب هذه الخدعة في حياتنا اليومية البسيطة. يقول واحدنا للآخر: «لا تعتقد أنَّ كل الناس مثلك»؛ أي لا تعتقد أنَّ كلَّ الناس تفكر مثلك، شراً، أو خيراً.

من المفيد في حياتنا السياسية أيضاً الانتباه إليها. رأيك في قضية ما نَبْتٌ من وعيك بها. ووعيك ليس ثمرة حقائق مطلقة كما تعتقد، بل ثمرة تفسيرك لما تعرف من معلومات. يتعجَّب الإنسان أمام قضية حساسة، واضحة وضوح الشمس لكل طرف من طرفيها، مثل قضية فلسطين، وكيف يستخدم كلُّ طرف حجة الطرف الآخر دليلاً لصالحه.

الفلسطينيون يقولون للعالم إنَّ اليهود احتلوا الأرض كما فعل الغزاة الأوروبيون مع السكان الأصليين في غير موضع. واليهود يقولون له إنَّنا سكان أصليون لتلك الأرض، لغتنا إحدى لغات المنطقة، وطُردنا منها. الفلسطينيون يقولون إنَّ كفاحنا ملهم للمتمسكين بالأرض، واليهود يقولون إنَّ عودتنا ملهمة للمتمسكين بالأرض.

وعيك التاريخي يعتمد على اللحظة التي قررت أن تبدأ منها السرد، ثم من زاوية نظرك للأحداث. ومن ثم، فإنَّ إدراكك لخدعة الوعي ليس دعوة إلى التخلي عن وجهة نظرك، أو التقصير في الدفاع عنها، لكنَّه مهم لتقليل الشطط والتطرف والحسابات الخاطئة وتوقعاتك لردود الفعل خارج جماعتك.

الجماعات السياسية الفكرية تحب استخدام لفظة «الوعي» ومرادفاتها لإقناع الجماهير أن أفكارهم منطقية تماماً، وأن السبب الوحيد لمخالفتها عطبٌ أخلاقي. الإسلامجية يسمون أفكارهم الصحوة، واليسار الحالي يسمي أفكاره «woke» أو اليقظة، والشيوعي يصف اعتناقه أفكار الماركسية بعبارة «حين بدأت مرحلة الوعي». في حين أن الوعي مجرد تفسير عقلي لما يدور، فيه من الحقيقة بقدر ما فيه من الزيف، وفيه من الحق بقدر ما فيه من الضلال.

وما زاد الأمر سوءاً الانحيازُ بلفظة «الوعي» نحو الأفكار والجدل العقلي. يحمل هذا خطراً ضمنياً لا ينتبه إليه كثيرون، هو خطر الابتعاد عن الوعي المبني على حواسك الرئيسية. حين تذهب إلى مكان «س» فتسعد عينك، وترتاح أنفك، ولا تنزعج أذنك، وتطمئن أعصابك، وتأمن سلامتك، ثم تأتي حزمة من الأفكار لتقنعك أنَّ المكان «ص» الذي يتصف بالعكس تماماً أفضل، فلا بد أن تلك الأفكار مضللة، لا تغرس وعياً، بل تزيفه. تتلاعب بالكلمات لكي تطمس وعي الحواس. أحد أكبر مظاهر التلاعب بالكلمات لخداع الوعي هو الشعار، وهذه الخدعة الثالثة.

الشعار بطاقةٌ على منتجٍ مُعَلَّب لا نعلم محتواه، عنوانٌ على غلاف كتاب من الأفكار لم نقرأه. اكتشف أصحاب الأفكار على مدار التاريخ أن عائد الجهد المبذول في صياغة الشعار أعلى كثيراً من ذلك المبذول في صياغة حجج تفصيلية محكمة. وأن الشعار يلائم الثقافة السمعية التي يعتمد عليها أغلب البشر.

وأسهل تجربة تجريها على شعار رائج جذاب أن تضيف إليه نعت «انتقائية»، ثم تختبر اتساق العبارة. كونه النعت المحذوف عمداً من الشعار لإخفاء غرضه المضمر، وهو تحويل مصلحة مجموعة معينة أو وجهة نظرها إلى قيمة عالمية تسري على الجميع. هنا سترى أنَّ «العدالة الاجتماعية» في حقيقتها ظلم اجتماعي لفئات، ومكافأة اجتماعية لفئات. وستكتشف ازدواجية شعار «الإنسانية»، وكيف يستخدمه طرف وقت هزيمته ويتجاهله وقت جريمته. وربما يفاجئك حضور شعار «المساواة» في توزيع المكاسب، وغيابه في توزيع المسؤوليات.