ما كانت الدول لتزدهر وتنمو وتتقدم سوى في عالم يسوده الأمن والسلام والتعاون، وما كانت المعارف الإنسانية لتقوم وتستقيم سوى بتبادل الخبرات والتجارب، وما كانت الأمم لتنهض إلا بالاقتراب من تجارب الآخرين والإفادة من نجاحاتهم والتعلّم من إخفاقاتهم، فهذا هو ديدن البشرية لتناقل الثقافة والمعرفة منذ البدء، فالإنسان قد خُلق لا يعلم شيئاً حتى علّمه الله الأسماء كلها، ومن ثم تناقل المعرفة جيلاً بعد جيل، الأمر الذي أثمر تطوراً إنسانياً على جميع الأصعدة عبر العصور، ولذلك أيضاً خلقنا الله أمما لنتعارف، فمهما اختلفت أعراقنا وألسنتنا، إلا أن قاسمنا المشترك هو إنسانيتنا وسيبقى هذا القاسم يجمعنا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
في البدء ستأخذنا هذه المقدمة إلى جهود وزارة الداخلية البحرينية الحثيثة نحو تطوير للمنظومة الأمينة الوطنية باعتبارها الدرع الحامي للأمن الوطني في البلاد بجهودها الوطنية والدولية، وتأتي زيارة معالي وزير الداخلية مؤخراً لجمهورية النمسا ضمن خطة زيارات لعدد من الدول تعزيزاً للجهود التي تبذلها الوزارة من أجل تحقيق التعاون الأمني مع الدول الشقيقة والصديقة وتبادل الخبرات في هذا المجال والاستفادة من تجارب الدول التي قد تكون سبقتنا ببعض الخطوات لتجارب جديدة على الصعيد الأمني، ولاسيما في مجال العدالة الجنائية، الذي تقدّمت البحرين فيه كثيراً لاسيما في ظل انتهاجها سياسة جنائية ترتكز على المفهوم الحديث القائم على الإصلاح وإعادة تأهيل الجناة ليصبحوا أدوات بناء في المجتمع، سعياً إلى الحد من معدلات الجريمة، الذي ترجمته عبر قانون العقوبات والتدابير البديلة عبر تطور أدواته لتصل إلى برنامج السجون المفتوحة وهو خطوة جريئة خطتها مملكة البحرين سابقة محيطها في اتجاه العدالة الجنائية الحديثة، كما كان لهذه الزيارات بُعدٌ دولي في الوقت ذاته يتمثل في مناقشة القضايا الأمنية العالمية وتبادل وجهات النظر حولها، وكل ذلك ينبع من رؤية وإيمان مملكة البحرين بتعزيز واحترام وحماية حقوق الإنسان، وتبنّي المبادئ الإنسانية القائمة على التعايش والتسامح والسلام.
ومن ثم فإن الحديث عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية يجرّنا دائما إلى أهمية التعاون الدولي ودوره في إحلال السلام على الصعيد الدولي، وهو هدف أساسي من أهداف نشأة الأمم المتحدة والتفاف الأمم حول ميثاق الأمم المتحدة، باعتبار أن الحرب هي نقيض السلام، وأن التزام الدول بإعمال وتعزيز وحماية واحترام الحقوق التي نصّ عليها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا يتحقق إلا في بيئة يسودها السلام، ففي الحرب لا حقوق ولا حريات، فالحرب هي السبيل إلى انتهاك حقوق الإنسان وفي مقدمتها الحق في الحياة، وفي الحرب إن لم يفقد الإنسان حقه في الحياة فيموت وتموت معه حقوقه، فلا شك أنه سيفقد بقية حقوقه الأخرى كحقه في سلامة جسده، في الحرية والأمان على شخصه، في السكن، في الغذاء وغيرها من الحقوق.
ومن الملاحظ أن السلام الدولي الذي يعتبر أهم أهداف الأمم المتحدة، لم يتحقق بشكل كامل منذ عام 1945 وحتى الآن، فما فتئت الحروب تُعلن وتدور رُحاها من دولة إلى أخرى وتُدمّر فيها بُنى الدول التحتية والفوقية ولا تسلم حقوق الإنسان جرّائها من الانتهاك، ولعل أحدثها تلك الحرب الدائرة على غزة وأهل غزّة بما صحبها من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان، والتي لا يمكن لمرتكبها التعتيم عليها في ظل الثورة التكنولوجية والشبكية ودور وسائل التواصل الاجتماعي في نشر آثار الدمار والضرر على الانسان والممتلكات العامة والخاصة، وغيرها من الممارسات التي يندى لها جبين البشرية والتاريخ.
ولأن أثر الحرب لم يعد محدوداً من الناحية الجغرافية، بل إن آثارها تمتد لتطول اقتصاد الدول وأمنها، فالدول المجاورة للإقليم الذي تدور فيه الحرب قد لا تكون آمنة بشكل مطلق، لذا فقد أصبح من المهم في مثل هذه الأوضاع أن تتخذ الدول الأخرى باعتبارها مكوّنا من مكونات المجتمع الدولي، موقفاً إيجابياً تتضافر بموجبه الجهود الإنسانية الدولية من أجل دفع العجلة نحو تحقيق السلام الدولي بشكل فعلي، والمطالبة بفرض السلام كلّما وأينما ووقتما أشعل فتيل الحرب والعمل على حماية وتعزيز حقوق الانسان في أيّ مكان، ولا سيما أهل غزّة الذين دارت عليهم مؤخراً رحى الحرب والتدمير، وأصبحت أعداد قتلاهم تتصاعد بين ضحية وعشاها، ليكون للمجتمع الدولي مُجتمعاً كلمة واحدة ودور في حماية واحترام حقوق الانسان، يوازي دور القضاء الدولي الذي ينظر حالياً في مجريات أحداث ومصير غزّة ليفصل فيها بحكم قضائي قد يكون مفصلياً في هذه القضية الإنسانية، باعتبار أن الصمت ليس هو الحل، وخاصة أن دوائر الأيام تدور وقد يكون أي شعب آخر يوماً ما مكان أهل غزّة.
التعليقات