التأمت في نواكشوط عاصمة موريتانيا الدورة الرابعة للمؤتمر الأفريقي للسلم المتفرع عن منتدى أبوظبي للسلم الذي يرأسه معالي العلّامة عبدالله بن بيّه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم.
المؤتمر نُظم برعاية وحضور الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، وبمشاركة جمع كبير من رجال السياسة والفكر والإعلام من الدول الأفريقية، في مقدمتهم الرئيس الغامبي «آداما بارو» الذي فاز بجائزة المؤتمر لهذه السنة.
وقد خُصصت هذه الدورة لموضوع التعليم العتيق في أفريقيا من حيث هو ركيزة أساسية للعلم والسلم الأهلي والاجتماعي. وكما قال الشيخ عبد الله بن بيّه، فإن أسباب العنف والكراهية والغلو تنبع من ثلاثية «الجهل والجهالة والفقر»، وهي المخاطر التي نجح التعليم العتيق الأفريقي في تجاوزها ومحاربتها. ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن التعليم العتيق في أفريقيا لم يكن مجرد ممارسة تربوية علمية، بل كان في الوقت نفسه نمط عيش وحياة وطريقة في البناء الاجتماعي والتنظيم المدني.
وفي هذا الباب، يمكن أن نميز بين أنواع ثلاثة من مؤسسات التعليم العتيق تعرّض لها مؤتمر نواكشوط وهي: الجامعات الشرعية العريقة وأشهرها الزيتونة في تونس والأزهر في مصر والقرويين في المغرب، والمحاظر الشنقيطية التي نشأت في المجال الذي تشكل موريتانيا اليوم قلبَه، والمدارس الأهلية السودانية التي انتشرت على نطاق واسع في غرب ووسط أفريقيا. أما الجامعات التقليدية في شمال أفريقيا، فقد ارتبطت في التاريخ الثقافي للمنطقة بتحولين جوهريين، هما: تركز التقاليد السنية الأشعرية في نسخها العالمة المتخصصة (رغم كون الأزهر تأسس أصلا في العهد الفاطمي الإسماعيلي قبل أن يصبح صرحاً سنياً أساسياً منذ العهدين الأيوبي والمملوكي)، وتشكل حواضر العلم والتجارة الكبرى التي أصبحت بداية من القرن الرابع الهجري مراكز للحكم والإشعاع الثقافي الديني.
أما المحاظر الشنقيطية التي ازدهرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجري، فقد ارتبطت أولاً بمدن القوافل الصحراوية (ولاتة وتيشيت ووادان وشنقيط) قبل أن تنتقل إلى مختلف أرجاء البادية المترحلة. ما يميز هذه المحاظر هو تلاؤمها مع النسق الاجتماعي المحلي القائم على القبيلة والبداوة، بما حدا بالبعض إلى وصف المجتمع الشنقيطي التقليدي بأنه «الحالة البدوية الوحيدة العالمة» في السياق العربي الإسلامي. أما المدارس السودانية (مالي والسنغال الحاليتين) فقد ارتبطت بالإمبراطوريات والدول الإسلامية الكبرى التي حكمت المنطقة، من إمبراطوريتي غانا ومالي إلى دولة الصونغاي والإمارات الفلانية والإمامات في فوتا والوالو.
في هذه المنطقة الواسعة تشكلت مدارس علمية عريقة في مدن مثل تمبكتو وأروان وسكوتو وبير، انتهاءً بالحواضر الصوفية السنغالية في طوبى وتيواون وكولخ. ما يميز المدارس السودانية هو أنها شكلت قاعدةً مكينةً للإسلام السني الأهلي الذي كان الضمانة القوية للاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي في هذا المجال الغرب أفريقي. لقد بين العلامة بن بيه ضرورةَ إعادة بناء وتأهيل التعليم العتيق في أفريقيا، لكي يكون مؤهلاً لأداء دوره التربوي والمجتمعي في القارة التي تجتاحها اليوم أزمات عميقة، تبرز في ظواهر التطرف العنيف وتراجع النظم العلمية وتفكك المجتمعات الأهلية.
التحدي المطروح هنا بوضوح هو كيف يمكن الحفاظ على التعليم العتيق في روحه وثوابته مع تطوير أساليبه التربوية ومقوماته المؤسسية؟
ما لا بد من الإشارة إليه هو أن خطاب الإصلاح والتحديث اختطف من لدن الاتجاهات المتشددة التي تحت غطاء إعادة تأويل الدين أغلقت عملياً منافذَ الاجتهاد والتجديد حين ألغت مساحةَ التعددية الواسعة والثرية التي تطبع التقليد الإسلامي الوسيط. في كتابه «ثقافة الالتباس: نحو تاريخ آخر للإسلام»، يبين الباحث الألماني في الإسلاميات توماس باور أن التقليد المعرفي والعلمي الإسلامي اتسم منذ العصر العباسي بالتنوع الشديد والتعددية التأويلية الواسعة في مجالات العقيدة والتشريع والأخلاق والسياسة، بما يقتضي تفنيد أطروحة «الدوغمائية الإسلامية المغلقة» التي يكررها العديد من المستشرقين. فطالما أنه ليس في الإسلام السني سلطة تأويلية قاهرة ولا إمكانية فيه لفهم أحادي للنص، فإن التأويل يظل من هذا المنظور حراً ومفتوحاً.
وهكذا نخلص إلى أن التعليم العتيق حافظ على حيوية ومرونة التقليد الإسلامي الوسيط، وهو اليوم خط الدفاع الحقيقي ضد الإسلام المؤدلج وتيارات الغلو والتطرف النشطة على نطاق واسع في القارة الأفريقية. تلك هي رسالة المؤتمر الأفريقي للسلم الذي أصبح مؤسسة فاعلة ومؤثرة في السياق الأفريقي.
*أكاديمي موريتاني
التعليقات