في الأسبوع الماضي، قمت بزيارة إحدى الديوانيات الكويتية، ومع تكاثر أعداد روّاد الديوانية، تحوّل مسار الحوار نحو سياسة الكويت الخارجية، بما فيها المستجدات التي دخلتها والتواصلات القديمة التي غابت عنها، وأشرت إلى أن دبلوماسية قبل الغزو، وهي الفترة ما بين 1961–1990، جاءت من واقع الكويت آنذاك، ومن الظروف التي مرت بها للوصول إلى عضوية الجامعة العربية في 1961، فقد خرجت دبلوماسية قبل الغزو من حقائق تولدت من شروط رافقت قبول الكويت عضواً في الجامعة العربية وهي:
- أولاً: سحب القوات البريطانية، التي استجابت لطلب الكويت لمواجهة ادعاءات رئيس وزراء العراق بتبعية الكويت للعراق، وثانياً: تشكيل قوة عربية تتواجد على حدود البلدين، دعماً للكويت ورفضاً لادعاءات العراق، وثالثاً: مساعدة الكويت، إذا ما رأت الانضمام إلى أي دولة عربية.
هذه الشروط التي قبلها الشيخ عبدالله السالم أغلقت احتمالات الدعم العسكري من الدول الغربية القادرة، وحصرت آليات الردع الكويتية في الجامعة العربية.
والحقيقة أن الجامعة العربية في قراراتها بشأن الكويت حرمت الكويت من حرية التحاور مع بريطانيا، وهي القوة التي وفرت الحماية منذ نهاية القرن قبل السابق حتى الاستقلال في 1961، وعاشت الكويت برادع عربي سياسي معنوي.
جاءت وصفة الجامعة العربية لعلاج أزمة الكويت غير مسبوقة في العلاقات بين الدول العربية، وتولدت من موقف الجمهورية العربية المتحدة، ومن رئيسها جمال عبدالناصر، واضطرت الكويت للتعايش مع هذا الموقف مدركة لحالة الأوضاع العربية، وممتثلة لشروطها بالاعتماد على دعم الجامعة وعلى اجتهاداتها، متبنية الحرص على إدامة التوافق العربي، ومستعدة للانطلاق لتثبيت التضامن بمبادرات تنطلق لحل المشاكل بين العرب، أو تجميدها إن تعذّر الحل، وجنّد المرحوم الشيخ صباح الأحمد جهده وما يملكه من مصداقية ومكانة ليلعب دور الساعي لدفن الخلافات، وتجاوز التوترات وتأمين السلاسة بين الدول العربية، إيماناً من الكويت ومنه شخصياً بأن أمن الكويت يتقوى مع التوافق العربي، الذي ينهي الانقسامات ويغلق الساحة العربية أمام التكتلات.
كان الشيخ صباح الأحمد واعياً بأن أمن الكويت مضمون بالتعاون العربي الجماعي، ولهذا لا مفر من استمرار التفاهم الجماعي، وأن دور الكويت الحيوي الحفاظ عليه بكل الوسائل، بما فيها التطوع ليس بالمشاركة فقط في اللجان العربية، وإنما أيضاً لتقبل ترؤسها، عارفاً بالمتاعب، وواعياً لأثقال المسؤولية.. لكنها الضرورة.
كانت سنوات عدة قضاها المرحوم الشيخ صباح الأحمد متحركاً ومتوسطاً ومبادراً، وكان مؤمناً بأن هذا النهج يؤمن سلامة الكويت، بعد أن أغلقت الجامعة دروب التواصل مع الحلفاء التقليديين.
كنت في معيته من عام 1964 وحتى عام 1971، شاهداً على تلك الحيوية التي تتدفق من قناعته بالدور الذي يتولاه، وكانت أجمل الأدوار مساعيه لترتيب لقاء يجمع الرئيس عبدالناصر والملك فيصل في الكويت حول اليمن، وأثقل الأدوار رئاسته للجنة العربية للدفاع عن العراق في حربه مع إيران، فرغم متاعب السفر لمسافات طويلة فقد استمر واعياً لأعباء المسؤولية.
كان الرئيس العراقي صدام حسين يتوقع خيراً من جهوده في توضيح موقف العراق من وقف إطلاق النار، حيث أولوياته هي وقف الحرب، وكانت إيران تسعى لإسقاط النظام في بغداد، كما قبل برئاسة اللجنة لإنهاء حرب لبنان الأهلية، مستنداً على سلامة الجهد ونزاهة المصداقية وسعيه لحماية لبنان.
كان التفاؤل أهم أسلحته، والتصميم منبع تحركاته، مدعوماً بإجماع القيادة الكويتية، ومسنوداً من الارتياح الشعبي لجهوده، وكان في جولاته في الامم المتحدة وواشطن ولندن مدافعاً عن القضية الفلسطينية، ولا يثير شيِئاً عن الكويت أو عن حاجاتها الدفاعية، وكانت معتقداته عميقة بأن المشاكل التي يثيرها العراق حول الحدود، والاعتماد العراقي على الدعم الخليجي في حربه مع إيران، سيحلان المشاكل عبر القنوات الدبلوماسية، ورغم واقعيته في تقييم الخلافات بين الدول العربية، فإنه مطمئن بأن ملف العلاقات مع العراق موجود في المسار التفاوضي.
وبهذه الروح يجيب على سؤال لمندوبة C.N.N خلال أزمة التسعين، حول من يلجأ إليه طالباً المساعدة لصد العراق، فيرد بوضوح سيطلب النجدة من الجامعة العربية.
كنت معه يوم الغزو المشؤوم، وعبرنا الحدود السعودية في سيارة واحدة، كان صامتاً طوال الوقت، متسائلاً عن حجم الدناءة لدى القيادة العراقية.
كانت علاقات الكويت مع الولايات المتحدة منضبطة، لكنها لم تكن حميمية، ولا تتميز بالحرارة، وأتذكر أن وزير خارجية سلطنة عمان العائد من واشنطن اقترب مني، خلال اجتماعات وزراء خارجية مجلس التعاون عام 1988، ليبلغني رسالة من الرئيس جورج بوش «الأب»، يتساءل أمام الوفد العماني الزائر إلى واشنطن عن رضاه عن العلاقات بين دول المجلس وواشنطن، لكنه خص الكويت بملاحظة عن مسببات البرود الكويتي تجاه واشنطن.
رجوت الوزير يوسف العلوي بأن يبلغ الشيخ صباح الأحمد عن هذه الملاحظة، وكان لا يريد الإحراج، المهم أنني نقلت إلى الشيخ صباح الأحمد تلك الملاحظة، التي خرجت من الرئيس الأميركي.
كانت دول مجلس التعاون، ما عدا الكويت، لها علاقات مميزة مع واشنطن، لكن الأغلال التي وضعت على الكويت، ثمناً لعضويتها في الجامعة العربية، ثقيلة لا تنسجم مع واقع دولة مستقلة، لكنها كانت وصفة قبلتها الكويت لمواجهة تهديدات العراق.
جاء الغزو في أغسطس 1990 ليضع الكويت في موقع آخر، منفتحة لكل الدروب، تحمل مرارة الغزو والعجز العربي في إدانته، تتعجب من موقف إحدى عشرة دولة عضواً في الجامعة العربية عاجزة عن إدانة العدوان.
ومن تلك الحقائق انفتح فضاء الكويت السياسي، لتعقد تحالف بشراكة استراتيجية مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا.
تعززت الروابط معهما في جميع المجالات عبر حوارات متنوعة، تعكس حقيقة الكويت وحاجتها الملحة لتواجد رادع قوي يؤمن سلامة الكويت ويحافظ على استقلالها، وفوق ذلك التمسك بالالتزام بالتواجد الحيوي في الجامعة العربية واحترام قراراتها.
ومع سقوط الفيتو على حرية التحرك الدبلوماسي الكويتي تجاه الدول الكبرى، ومع استمرار التوتر الإقليمي، تظل الكويت حذرة في متابعة الأحداث، مرتاحة مع الآليات الرادعة التي توفرت من الشراكة الاستراتيجية مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، ممتثلة للواجبات ومتواجدة بفاعلية في اجتماعات الجامعة العربية، وملتزمة بقراراتها، وإيجابية في المشاركة لحل المعلقات وتجسير التباعدات.
ومن المهم الإشارة إلى أن شعب الكويت متناغم إيجابياً مع الإجراءات التي توصلت إليها الكويت، لتواجد الرادع المؤمن لاستقلالها، ويتحرك باليقين بتواصل حيوية الكويت، محصنة من أذى المطبات الإقليمية المفاجئة، ولابد من التطرق إلى واقع الشراكة الاستراتيجية وحاجتها إلى رعاية كويتية، خاصة في عواصم الشركاء عبر زيارات ليست استثمارية سياسية أمنية فقط، وإنما حوارات في مسارات العلاقات العامة والتعليم والثقافة، وتكثيف استمرار تواجد الوفود الشعبية، أسوة بما تتبعه دول مجلس التعاون في علاقاتها الثنائية.
ولا يحتاج الدكتور الشيخ محمد صباح السالم تذكيره، فقد عاش سنوات سفيراً في واشنطن، وهضم مفاهيم ومعاني الشراكة.
هذه باختصار مستجدات الكويت وأولوياتها، كما يرصدها المواطنون.
التعليقات