ما هي الرعاية التي تحظى بها الأقلام الواعدة، من قبل الذين قضوا سنين أو عقوداً في تسويد الصحائف؟ لا شيء تقريباً، لا تثبيط ولا تحبيط، ما يحتاج إلى تضبيط.
المنطلق سؤال بسيط: لماذا توارت عن الساحة العربية، في الخمسين سنة الأخيرة، الأساليب المتميزة في كل أجناس الكتابة؟ بتعبير شوقي ضيف، أفلَت نجوم «الفن ومذاهبه في النثر العربي»، ولم يعد الكاتب يقول «لا أحب الآفلين»، وخليق به القول: ولا أحبّ الغافلين، عن روعة المصابيح التي تتزيّن بها سماء إبداع الحرف، غير الرافلين في حلل تألق الكلمات، الجافلين من بروق سحر البيان، الحافلين بفتات ثلاثيات الفعل والفاعل والمفعول. حذار الاغترار باجترار الانحدار. إذا وسوس لكم أحد بأن عصر جمال الأساليب ولّى، فقولوا: كلاّ. ضعوا هذه القيمة في الحسبان: هل يُعقل أن يؤلف المبدع الموسيقي من دون أن يكون رائده إبداع الجمال، لتتوهج المهج إحساساً بالجمال؟ أيّ عاقل ينزلق ذهنه إلى توهّم أن موتزارت أو بيتهوفن كان يبدع روائعه لكي يحصد اللايكات؟ ذات مرّة دعي الموسيقار الأصم إلى مجلس أرستقراطي، فلمّا شرع في العزف ظلّ القوم متمادين في ثرثراتهم، فقام غاضباً قائلاً: «أنا لا أعزف للخنازير».
اعلموا أنّ الإبداع لا يتجزأ. يجب النظر إلى إبداع العربية، منذ تجلياته الأولى، إلى عصرنا، كما لو كان نهر إبداع واحداً بلا انقطاع. ليس في إمكان أيّ ناقد أو مؤرخ أدبي أو عالم لغوي أن يرجع بآلة الزمن إلى الومضة الأولى التي شعّت منها شمس الأدب العربي. تماماً مثلما لا يعرف أيّ عالم الخلفية الأولى البعيدة في الأعماق، التي تتفجّر منها ينابيع الأنهار الكبرى. من الصعب أن نرى التسلسل الإبداعي في الأساليب من الجاهلية إلى زماننا، لكن القيمة الكبرى في فلسفة جمال اللغة وعلم جمالها، هي أن ننظر إليها كما لو كانت روضةً، مختلفةً ورودها، ولكن سحر جمالياتها واحد. على المبدعين أن يكونوا في الحديقة كالنحل، يلثم الرحيق من مئات الأزاهير، ثم يصنع شهد رضاب مختلف الألوان، فيه شفاء للعالمين، وعبر التمثيل الغذائي يتجلى في إبداع أجناس أدبية لا تذبل ولا تأفل.
لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: انظر إلى الإبداع بالكلمة كتجربة كانت لها بداية، وليس لها نهاية، حتى لا تتوهم أنك آخر المطاف.
التعليقات