شهدت وسائل التواصل الاجتماعي مؤخّراً سجالات حول المشكلات التي ما فتئ يعاني منها الوضع الثقافي في الجزائر. وأشارت هذه المناقشات إلى شحوب الحياة الثقافية الوطنية بكل أشكال تعبيرها. وفي هذا السياق، أجمعت ملاحظات المراقبين للشأن الثقافي الوطني، على أنّ وزارة الثقافة الجزائرية لم تتمكن من خلق المناخ الثقافي المشجع على الإبداع، وفك العزلة الخانقة عن الثقافة الوطنية على المستوى الوطني أو الإقليمي والدولي، جراء عدم وجود استراتيجيات إيصال الإنتاج الثقافي الوطني الجزائري إلى المحيط المغاربي والمشرقي والإفريقي والأوروبي القريب جداً من الجغرافية الجزائرية.
وفي الحقيقة، فإنّ مسؤولية تدهور الوضع الثقافي الجزائري وعزل الثقافة الجزائرية ترجع مباشرة إلى عدم فهم وزراء الثقافة الجزائريين المكلّفين بتسيير الشأن الثقافي والفني والفكري في البلاد لدور الثقافة الحاسم في بناء الشخصية القاعدية للهوية الوطنية من جهة، وإلى إسناد حقيبة الثقافة إما إلى سياسيين تعوزهم التجربة الثقافية أو إلى مجرد إداريين أو باحثين أكاديميين يختزلون مهمّتهم دائماً في العمل البيروقراطي داخل المكاتب المركزية في الوزارة وعلى مستوى الإدارات الثقافية الفرعية في محافظات البلاد، التي تكتفي بالتنشيط الثقافي المحلي، والذي هو من اختصاص جمعيات وروابط المجتمع المدني المستقلة عن أجهزة الدولة.
يتفق المراقبون في الساحة الثقافية والفنية الجزائرية على أنّ هناك سلسلة من العقبات التي تعوق الثقافة الوطنية، منها العقبة المركزية المتمثلة في عدم وجود "مشروع ثقافي وطني" متكامل لدى وزارة الثقافة، علماً أنّ بعض أجهزة الدولة المكلّفة بتأهيل الشأن الثقافي الوطني سابقاً قد أعدّت في ثمانينات القرن الماضي ملفَين مهمَّين لترقية الثقافة الوطنية، ولكنهما لم يفعَلا حتى الآن. وقد تمّ إعداد الملف الأول من طرف كتابة الدولة للفنون والثقافة الشعبية، وثانيهما من إعداد لجنة الثقافة والتكوين والتربية التابعة للأمانة الدائمة للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني برئاسة السياسي الجزائري المعروف عبد الحميد مهري. لقد مضى أكثر من 40 سنة على هذين الملفين اللذين كانا في الإمكان أن يصبحا بمثابة مشروع ثقافي وطني لو تمّ إسنادهما وتنفيذهما بخطة محكمة من طرف وزراء الثقافة.
أما العقبة الثانية التي ما فتئت تجهض الحراك الثقافي الجزائري، فتتلخص في انكماش العمل الثقافي الجزائري على المستوى المحلي، وفي انعدام العمل بسياسات الانفتاح الثقافي على المحيط المغاربي والمشرقي والإفريقي والأوروبي.
وفي خصوص النقطة الأولى، فإنّ التجربة ونتائجها قد أوضحت أنّ الحكومة الجزائرية، التي تحتكر القرار الثقافي وتضطلع بمفردها بإدارة شؤون الثقافة على المستوى الوطني، وذلك من خلال مؤسسة وزارة الثقافة ومديريات ودور الثقافة التي أُنشئت في جميع المحافظات والمكتبات العمومية المنتشرة في الجزائر العميقة، تعتبر الشأن الثقافي من الكماليات وجرَّاء ذلك نجدها تخصّص سنوياً موازنة ضعيفة جداً للثقافة لا تتجاوز 120 مليون دولار، وتُصرف غالباً على التكريمات الإخوانية، والجوائز الشكلية، ورواتب الموظفين وصيانة العتاد، والملتقيات والنشاطات الفنية والثقافية العابرة التي تُخصّص للترفيه وتعبئة أوقات فراغ الشباب المحروم من العمل، عبر بلديات البلاد التي يقدّر عددها حتى الآن بأكثر من 1548 بلدية.
ونتيجة لهذا النوع من الإدارة البيروقراطية والموازنة الهزيلة، فإنّ وزارة الثقافة لم تؤسس المكتبات الكبرى والمتوسطة العصرية على مستوى بلديات البلاد لبيع الكتب الوطنية والعربية والعالمية الأخرى الجادة في مختلف حقول المعرفة بأسعار معقولة تشجّع على القراءة والتوزيع الديموقراطي للمعرفة، من خلال توصيل الكتاب الحديث إلى ملايين المتعطشين للمطالعة والتكوين الثقافي والفني.
وفي هذا الخصوص، يلاحظ المراقبون لشأن الثقافة في الجزائر، أنّ جميع مكتبات القطاع الخاص المتواجدة في الدوائر والمحافظات لا تدعمها وزارة الثقافة الجزائرية، وهي في الواقع مجرد "ورَاقات" تباع فيها الكتب المدرسية للتلاميذ والجرائد اليومية والنشريات الاسبوعية الوطنية ذات التوجّه السياسي الاستهلاكي والتي تتميز بمضامين وتصاميم دون المستوى.
ويُضاف إلى هذا، اختفاء سياسة دعم الكتاب والمؤلف بشكل نهائي، وجراء ذلك صار سعر الكتاب العادي باهظاً ومخيباً للمواطنين والمواطنات ذوي الدخل الشهري الضعيف، والذين يشكّلون الأغلبية، كما تؤكّد الإحصاءت الوطنية السنوية.
في مثل هذا الوضع، فقد تُرك أمر طباعة الكتاب الجزائري فريسة لأصحاب دور النشر الخاصة الوافدين إلى عالم الكتاب بلا خلفية ولا تجربة لهما علاقة بتكنولوجيا وثقافة الصناعة المتطورة للكتاب، حيث أنّ المهمّ لدى هؤلاء هو جمع الأموال التي يدفعها لهم الكتَّاب الفقراء، وبخاصة الشباب منهم في المناطق النائية المحرومة، مقابل طباعة كتبهم التي ترسل إليهم بعد طباعتها ولا توزع على نحو يجعلها تصل إلى المواطنين.
أما حقوق التأليف، فقد ألغتها وزارة الثقافة بجرّة قلم، ولم تبق سوى على نسبة 10 في المئة التي تُدفع للمؤلفين وتكون غالباً متأخّرة وبالتقسيط أو في صورة نسخ معدودة.
والجدير بالذكر هنا، هو أنّ وزارة الثقافة الجزائرية قد فشلت في إصدار المجلات الثقافية والفنية والفكرية الجادة والمتطورة، والتي يُفترض أن تكون فضاءً لنشر الإنتاج الإبداعي والفكري والفني للمنتجين الجزائريين ونظرائهم من المحيط إلى الخليج وفي العالم، بل إنّ المجلات القديمة التي كانت يوماً المتنفس الوحيد للكتّاب والمبدعين مثل مجلات الثقافة، وألوان، والشاشة، وآمال، قد اندثرت. أما مجلة انزياحات التي أُصدرت حديثاً، فقد ماتت في المهد جراء ضعف ما كان يُنشر على صفحاتها.
إلى جانب ما تقدّم، فإنّ وزارة الثقافة الجزائرية قد أوصدت الأبواب الفولاذية على الكتب والمجلات والصحف الثقافية المغاربية والمشرقية والفرنسية بشكل خاص، ولا تستورد كليةً المجلات والدوريات والملاحق الثقافية والفنية والفكرية في أوروبا وإفريقيا وبقية العالم، وتكتفي بالمعرض السنوي الدولي للكتاب فقط، علماً أنّ هذا المعرض قد تحوَّل إلى ظاهرة فولكلورية وساحة للتجارة بالكتاب الغالي جداً على حساب دخل المواطن الضعيف.
والأدهى، هو غياب سياسات التعريف بالثقافة الجزائرية ومنتجيها في المحافل الدولية، سواءً بواسطة ترجمة الإنتاج الوطني إلى اللغات الحية وعقد الندوات المتواصلة، أو عن طريق توقيع الاتفاقات مع وسائل الاعلام العربية والأجنبية التي تضمن تخصيص مساحات لعرض وتقديم الإنتاج الثقافي والفني والفكري الجزائري. وبهذا السلوك تكون وزارة الثقافة الجزائرية بلا برنامج عملي لخلق الانفراج الثقافي في الجزائر، مع الأسف.
- آخر تحديث :
التعليقات