انطلقت مؤخّراً في مدينة بشار الجنوبية الجزائرية أعمال الندوة الجهوية لتحضير المؤتمر الوطني لهيئة المهندسين المعماريين الجزائريين. وأكّد القائمون على هذه الهيئة في تصريحاتهم، أنّه ستنعقد في هذا الإطار بالذات سلسلة من لقاءات أخرى مبرمجة في كل من ولايات (محافظات) البليدة، وادي سوف، عنابة، والجزائر العاصمة.
ومن الملاحظ أنّ وسائل الإعلام الوطنية الجزائرية بكل أنواعها، لم تأخذ هذا الحدث في الاعتبار، رغم أهميته القصوى، حيث لم تمهّد لهذه اللقاءات بعقد ندوات بمشاركة الشخصيات المتخصّصة، وبخاصة أساتذة ومصمّمي المعمار العاملين في مختلف مؤسسات التعليم العالي، كما أنّها لم تنشر مسبقاً دراسات جادة، وتحقيقات ميدانية بإشراك أهل الاختصاص فيها، من أجل مناقشة مشكلات المعمار الجزائري الذي ما فتئ يعاني من التخلّف البنيوي.
قبل استعراض بعض هذه المشكلات، فإنّه ينبغي الإشارة بسرعة إلى بعض العقبات التي تصطدم بها الهيئة الوطنية للمهندسين المعماريين منذ نشأتها في عام 1994.
في هذا الخصوص، صرّح الرئيس السابق لهذه الهيئة جمال شرفي، لصحيفة "الحوار" الجزائرية، أنّ التعهد الذي يُلزم "المهندسين المعماريين بفتح مكاتب دراسات في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر بعد تأديتهم لليمين" هو "مجرد نظام داخلي تمّ الاتفاق عليه" وغير مؤسس على القانون الصارم لهذه الهيئة.
وفي سياق آخر، نجد رئيساً سابقاً آخرَ لهذه الهيئة، وهو عاشور ميهوبي، يشكو من غياب التشريعات الوطنية التي تضبط المخططات المعمارية الهندسية في المدن والأرياف معاً. وفي هذا الخصوص قال في تصريح للصحافة الوطنية "إنّ 95 في المئة من الجزائريين لا يحترمون المخططات الهندسية في إنجاز أبنيتهم"، ثم دعا "السلطات العمومية وعلى رأسها الوزارة الأولى، إلى مراجعة النصوص القانونية الخاصة بمستحقات الدراسات المعمارية والتقنية التي تعود لـ 28 سنة"، مشيراً إلى أنّ "وضعية المهندسين المعماريين في الجزائر ستزداد سوءاً بفعل تأثير الأزمة المالية وإعلان السلطات تجميد عدد من المشاريع".
وفي الحقيقة، فإنّ الجزائر قد عرفت قبل تأسيس هذه الهيئة الوطنية منذ 25 سنة نوعاً آخرَ من تنظيم نقابة المعماريين الجزائريين، وكان ذلك من خلال تشكيل اتحاد وطني في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وقد كان المشرف حينذاك عليه سياسياً وتمويلاً لجنة الثقافة والإعلام والتكوين برئاسة عبد الحميد مهري، وكان عضو الأمانة الدائمة بحزب جبهة التحرير الوطني.
نظرياً، فقد أسند حزب جبهة التحرير الوطني لذلك الاتحاد إدارة شؤون المعمار الوطني، ولكن الهرم الأعلى بالرئاسة قد فوّض وزارة التخطيط المعماري والتهيئة العمرانية برئاسة وزير لا علاقة له بالإدارة الفعلية للشأن المعماري، وجراء ذلك حصرت وظيفة الأمانة الوطنية للمهندسين المعماريين الجزائريين في الدعاية الحزبية خلال الاستحقاقات الانتخابية المختلفة.
في هذا السياق، يرى خبراء التهيئة العمرانية والهندسة المعمارية في الجزائر أنّ السلطات الجزائرية المركزية والولائية والبلدية المحلية المسؤولة عن أوضاع التراث المعماري الوطني، وعن المعمار الموروث عن الحضارات المختلفة التي عرفتها الجزائر في تاريخها القديم والحديث، لم تملك في الماضي ولا تملك في الحاضر مشروعاً يضمن نشر المعمار المتطور في الجزائر على أساس معايير الحداثة والمحافظة بالتزامن على خصائص الهوية الوطنية عبر التاريخ.
وفي هذا الخصوص، يلاحظ مراقبو الشأن المعماري في الجزائر أنّ مؤسسات السلطات الجزائرية، وبخاصة وزارة الثقافة والسياحة والبناء، لم تقم برعاية وتحيين وعصرنة مختلف أصناف المعمار الوطني العريق، وأكثر من ذلك فإنّ هذا الكنز التاريخي والروحي الوطني الذي أبدع منذ فجر التاريخ، قد تُرك فريسة للإهمال وللتآكل جرَّاء عدم ترميمه وحمايته من التخريب البشري ومن أخطار الطقس طوال مرحلة الاستقلال منذ عام 1962.
من المؤسف أنّ المجتمع الجزائري محروم حتى الآن من العدالة المعمارية التي تتلخّص في وحدة النسق المعماري الوطني في المدن والقرى معاً، بل إنّ الذي يميز البنايات، والساحات، ومختلف صور المعمار الأخرى هو الفوضى وانعدام التناسق. في هذا المناخ السيئ قد تُركت الأنماط المعمارية الموروثة عن المراحل التاريخية القديمة والحديثة والمعاصرة فريسة للتلف، منها على سبيل المثال ما لا يقل عن 100 هرم نوميدي جزائري تتمتع بطابع خاص، لا يعرف المواطن الجزائري ولا يسمع السائح الأجنبي شيئاً يُذكر عن تاريخها ومبدعيها وتقنيات جماليتها المعمارية المدهشة.
كما هو معروف، توجد في الجزائر أنواع من المعمار منها النوميدي، والروماني والاسباني، والعثماني والفرنسي، غير أنّه لم يتمّ تحديثها وعصرنتها وتطويرها بما يفضي إلى تأسيس هوية معمارية وطنية متنوعة. وبالعكس فإنّ تنوع التراث المعماري الجزائري مهمل.
وفي هذا الخصوص، أكّد لي الفنان التشكيلي والمعماري والمصمم المسرحي الجزائري العالمي الراحل عبد القادر فرَاح في حوار معه قبل وفاته، أنّه قد قام شخصياً في عهد الاحتلال الفرنسي وفي الاربعينات من القرن العشرين "بإعداد ملف عمراني عن الجنوب الجزائري، فأتاحت لي هذه المهمة أن أزور مختلف القرى والمناطق الصحراوية، وأن أتعرف مباشرة على معمارها المتميز". ولكن لا أحد يعرف الآن أين يوجد هذا الملف، ومن المرجح أن يكون ضمن ملف الأرشيف الوطني الذي لم تسترده الجزائر حتى الآن من الدولة الفرنسية.
في هذا السياق، ينبغي التذكير أيضاً أنّ هناك إرثاً معمارياً مهماً جداً قد سجّل تفاصيله ودلالاته الثقافية والفنية والنفسية مفكر واثنوغرافي فرنسي شهير هو بيار بورديو، وذلك في عدد من مؤلفاته المنشورة والمترجمة إلى عشرات اللغات، ولكن هذا الإرث لم يُدرّس ويفعَّل جزائرياً، علماً أنّ عشرات الدراسات قد أُنجزت في الغرب حول مميزات هذا المعمار الأمازيغي الذي درسه هذا العالِم الفرنسي بعمق.
إلى جانب ما تقدّم، يُلاحظ أيضاً أنّ المعالم المدهشة للكنز المعماري الذي خلّفته الامبراطوريات الرومانية والعثمانية والاسبانية والفرنسية التي عرفتها الجزائر عبر تاريخها، لم تُدرَّس للأجيال الجزائرية الجديدة ولم تُستلهم أيضاً في التصاميم المعمارية، بل إنّ جزءاً كبيراً من هذه المعالم قد طمس، أما ما تبقّى منها، فيعاني من النسيان حيناً ومن التخريب التدريجي والمنهجي أحياناً أخرى.
- آخر تحديث :
التعليقات