"أسقاز أمقاز 2974" (عيد سعيد)، بهذه العبارة الجميلة الخاطفة يهنئ أبناء شمال أفريقيا من الأمازيغ بعضهم بعضاً بمناسبة عيد رأس السنة الأمازيغية، التي تصادف الـ12 من يناير (كانون الثاني) من كل سنة.

لكل أمة تقويم تتبعه، سواء كان فلاحياً أو دينياً أو أسطورياً أو عسكرياً أو ملكياً أو إمبراطورياً، وقد يطغى تقويم على التقويمات المحلية لأسباب اقتصادية وتجارية ومالية ليصبح مرجعية عالمية كما هو التقويم الميلادي الغريغوري الذي تعتمده بلدان العالم مرفقاً في كثير من الدول بتقويماتها الخاصة الدينية أو الفلاحية.

ولكل تقويم جانب تاريخي مرتبط بحادثة تاريخية أو دينية أو حربية حقيقية تثبتها الوقائع، لكن وفي غالب الأحيان يتم اختراق هذا المضمون التاريخي الوقائعي ببعض المقاربات أو التفسيرات أو التأويلات التي تتشكل على هامش التقويم، وهي عبارة عن سردية تقوم على الأسطوري والخرافي والبطولي الذي يكرس التقديس والتفضيل لهذا التقويم على الآخر، وفي هذه الأسطرة للتقويم تقيم المقاومة الإثنية والثقافية والعرقية لهذه الأمة أو تلك.

يتأسس تاريخ الأمم العريقة جميعها من دون استثناء على سردية واقعية وسردية أسطورية، ومن دون هذا التماهي ما بين الأسطوري والواقعي لا يمكن لأمة أن تصمد أمام الأمم الأخرى، وما أي تقويم سوى الجمع في سردية تاريخ الأمم ما بين الأسطوري والوقائعي.

وهناك حروب رمزية أو حروب الرموز تحدث ما بين القوميات، وفي كثير من المرات يكون التقويم التاريخي ساحة لهذه المعارك الرموزية، السياسية والثقافية واللغوية والفولكلورية، وهو ما تحمله كثير من النقاشات التي تحدث كلما حل الاحتفال برأس السنة الأمازيغية ليس في الجزائر فقط لكن في بلدان شمال أفريقيا جميعها، وإن كان بأشكال مختلفة وبمستويات متفاوتة في الحدة والبيان.

صحيح أنه منذ ترسيم رأس السنة الأمازيغية في الجزائر وأصبح هذا العيد وطنياً وعطلة رسمية مدفوعة الأجر، وأصبحت في الوقت نفسه اللغة الأمازيغية لغة رسمية ووطنية إلى جانب اللغة العربية، فقد خف الصراع أو اتخذ أشكالاً أخرى، ولم يعد الحديث في هذا الموضوع من الممنوعات أو التابوهات، وإن ما يقام من ندوات ومحاضرات حول السنة الأمازيغية على المستوى الوطني قد خفف كثيراً من هذا الصراع الوهمي وقرب بين النخب أولاً وبين أبناء الوطن الواحد من الأمازيغ والعرب والأمازيغ المعربين.

وما يقوم به بعض المثقفين الجزائريين في نشرهم كتباً باللغة الأمازيغية وبالعربية وبالفرنسية حول تاريخ الأمازيغ والأدب باللغة الأمازيغية رواية وشعراً، جعل الاحتفال سنة بعد أخرى بطعم وطني أوسع.

وأمام هذا الحضور الثقافي الجاد والهادئ الذي يعتمد العقل في الحوار والذي تقوده مجموعة من النخب الجزائرية بالأمازيغية وبالعربية وبالفرنسية، والذي يعتمد الشجاعة في قول الحقائق التي كثيراً ما غيبها درس التاريخ الرسمي في الجزائر، جعل الاحتفال برأس السنة يأخذ طابعاً وطنياً ويخرج النخب التي كثيراً ما كانت محسوبة، بأحكام مسبقة، على الجهوية أو المناطقية أو الدينية إلى فضاء الحوار الوطني الإيجابي، وجعل النخب التي كثيراً ما وقفت على جبهة العداء والحرب المفتوحة تقبل بالاستماع، وفضيلة الاستماع هي نصف الحوار وأكثر.

لكن ما يجب التنبيه إليه والعمل لأجله هو ضرورة تحرير هذا الواقع الإيجابي لعمل النخب الوطنية على اختلاف توجهاتها الفكرية واللغوية – تحريره - من فخ "ثقافة المناسبة"، وذلك بالعمل على تكريس وضع ثقافي وفكري بديل يتميز بالثقة والديمقراطية وحرية الرأي من خلال الحوار العالم والعاقل المستمر والمتواصل لمحاربة أخطار فكر الغيتوهات الذي يقوم على إنتاج الكراهية العنصرية أو الدينية أو الجهوية أو اللغوية.

كلما اقترب عيد رأس السنة الأمازيغية الذي يصادف الـ12 من يناير تعالت أصوات غريبة تروج لجملة من فتاوى تحريم الاحتفال بهذا العيد، الذي يرمز إلى عراقة أمة لها تاريخها ولها لغتها ولها أفراحها، على أرض اختلط فيها الأمازيغ بالعرب عبر التاريخ، وهي أصوات، على رغم استثمارها في شبكات وسائل التواصل الاجتماعي، فإن تأثيرها يقل صداه سنة بعد أخرى أمام التحام أصوات النخب العاقلة والجريئة في الوقت نفسه على اختلاف تياراتها ولغاتها ومرجعياتها الفلسفية في مواجهة تجار في الوطنية وفي الدين والذين لا تحلو لهم السباحة إلا في الماء العكر.

الاحتفال بعيد رأس السنة الأمازيغية هو فرح جزائري، فرح شمال أفريقي، يجب تكريسه كمقاومة ضد ثقافة الموت والتشاؤم والانتحار.

مرات كثيرة أتساءل، ومثلي يتساءل كثر من الجزائريين ومن أصدقاء الجزائر وحتى من أعدائها، لماذا يا ترى يحلم الجزائري بهجرة بلده الذي يتوفر على كل شيء، فيه كل الخيرات الطبيعية والبشرية، بلد فيه بحر بشواطئ طولها 1400 كيلومتر وأكثر، بصحراء من أجمل صحاري العالم، هي عبارة عن استوديو مفتوح، وهي ثروة طاقوية متجددة لا تنضب، وفيه تعليم مجاني من الحضانة حتى الجامعة، وفيه نظام صحي، على هشاشته، لكنه مجاني، وفيه وسائل طرق تصل إلى أقصى الأرياف وفيه شبكة كهربائية تصل أعزل القرى وشبكة توزيع غاز المدينة في بيوت تقع خارج العمران المديني، بل في أرياف بعيدة جداً. حين أعدد كل هذه المزايا، على كل ما فيها من أعطاب، وأجد الجزائري يرغب، بل يحلم، في الهجرة إلى بلدان يعمل فيها كالعبد، شرقاً وغرباً، ويأكل نصف اللقمة ويعيش في مساكن بئيسة، أقول، من دون شك، هناك سبب ما لكل هذه الحالة الانتحارية.

الجزائري يهاجر لا بحثاً عن الأكل، فلا أحد يموت من الجوع في الجزائر، ولا بحثاً عن العمل ولا بحثاً عن جمال الطبيعة، الجزائري يهاجر من أجل "رؤية الحياة" كاملة ولو في بلد الغريب، من أجل أن يرى "السعادة" تمشي على قدميها لدى شعوب أخرى.

الجزائري لا يعاني الفقر، فالفقر ظاهرة موجودة في العالم بأسره، الجزائري لا يعاني الأمية فالمدارس مفتوحة للجميع ومجاناً من الحضانة حتى الجامعة، على رغم سلبيات نظام التعليم، فإن الجزائري يعاني غياب "الحياة" في بلده، غياب "السعادة"، والسعادة ليست هي الغنى.

الحياة ليست هي العيش، الحياة هي فلسفة وجود كاملة، والحياة روحها السعادة، أما العيش فهو رديف الاستهلاك، والحياة التي يبحث عنها الجزائري في بلده والتي لا يستطيع التعبير عنها، هي الحياة التي تتوفر فيها السعادة. الفرح مسألة مركزية في حياة الفرد والمجموعة البشرية، والسعادة قد توجد في أشياء بسيطة قادرة أن تقلب مسار أمة كاملة، كتوفر قاعات السينما بأفلام جديدة عالمية، ووجود المكتبات، وتنظيم حفلات الموسيقى العالمية الكبيرة، وفتح فضاءات الاستهلاك التي تتحقق فيها الرغبات الفردية مع احترام القانون واحترام التنوع، واحترام اختيار حياة الفرد بما يكفل له سعادته من دون المس بسعادة الآخرين.

وفلسفة "الحياة" هاته لا يمكنها أن تتحقق إلا بوجود سلطة مركزية معاصرة قادرة على الدفاع عن اختيارات كل أبنائها بتطبيق القانون بعيداً من الاستثمار في الشعبوية.

حين أقرأ بعض الفتاوى التي تحرم أو تضرب في عيد رأس السنة الأمازيغية وتحرم وتضرب في الاحتفال برأس السنة الميلادية وتضرب وتحرم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف نكتشف بعض تلك الأسباب التي تجعل الجزائري يحلم أن يهاجر من بلده، الذي هو جنة لكنها "مغلقة" إلى جحيم الآخرين المفتوح، حيث يكتفي بمشاهدة "الحياة" بكل فلسفاتها وأبعادها حتى وإن لم يكن له إمكانية المشاركة فيها.