في لقاء مع المتعاملين الاقتصاديين خلال هذا الأسبوع، حذّر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون من آفة البيروقراطية التي ما فتئت تنخر جسد الإدارة الجزائرية على المستوى المركزي، وفي الجزائر العميقة عبر المحافظات والدوائر والبلديات.

وجراء خطورة هذه الآفة، دعا تبون الوزراء والمسؤولين إلى تنفيذ قراراته في ظرف شهر واحد، ولكنه لم يحدد العقوبات التي ستطال كل من لا يطبق التعليمات والقرارات.

من الواضح أن الرئيس تبون لمس بنفسه، وذلك بعد توليه الحكم على مدى ثلاث سنوات ونيف، تهاون الوزراء والمسؤولين المركزيين وعلى رأس المحافظات خاصة في أداء واجباتهم تجاه المواطنين.

وفي الحقيقة، فإن ظاهرة البيروقراطية في الدولة الجزائرية ليست بنت اليوم بل ترجع إلى بدايات مرحلة الاستقلال، إذ لم تؤسس القيادات السياسية المتعاقبة على حكم البلاد الآليات المتطورة التي بموجبها تتم محاربة كل أشكال تجميد القرارات الصادرة من مؤسسة الرئاسة أو من أعضاء الحكومة والبرلمان بغرفتيه وتعطيلها.

في هذا السياق، يطرح المراقبون السياسيون هذين السؤالين: لماذا أجّل الرئيس تبون مشكلة البيروقراطية حتى الآن ولم يعالجها بدءاً من لحظة تسلمه منصب رئيس الجمهورية، بعد تأكيد المجلس الدستوري بتاريخ 16 كانون الأول (ديسمبر) 2019 صحة نتائج الانتخابات التي فاز بها رئيساً رسمياً للبلاد وفقاً للدستور والقوانين المنظمة للانتخابات؟
وما هو السبب الجوهري الذي أخّر البرلمان الجزائري والمجلس الدستوري عن استصدار القوانين الصارمة المنظمة للإدارة الجزائرية حتى الآن؟

وفي الواقع، هناك من يبرّر تأخر الرئيس تبون في إثارة ثم معالجة قضية البيروقراطية بإعطاء الأولوية لاستعادة الأموال المنهوبة من طرف العصابة التي تغلغلت في مختلف المؤسسات على مدى أكثر من أربعين سنة، ولمحاسبة رموز الفساد المالي مثل عدد من الوزراء والمحافظين والمديرين المركزيين والولائيين بمختلف رتبهم، ورئيسي الوزراء السابقين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال وغيرهما الذين تم إيداع الكثير منهم السجن، ولكن الفساد الذي نفثوه في البلاد لا تزال آثاره قائمة، كما أن المليارات التي نهبوها لا تزال في حكم الغائب حتى الآن.

إلى جانب هذا، فإن البرلمان الجزائري بغرفتيه لم يشهد أي حركة جادة على المستوى القاعدي لتنفيذ القوانين التي تحارب شتّى أشكال البيروقراطية المقنعة والصريحة، ويرجع السبب في ذلك إلى كون البرلماني الجزائري لا يتمتع بتقاليد ممارسة أعضائه الرقابة الدائمة والحاسمة على سير المؤسسات في المدن والأرياف معاً.

وفي الواقع، فإن وزارة الداخلية الجزائرية هي المسؤولة عن جزء كبير من تجليات البيروقراطية في الواقع الجزائري، لأن الجماعات المحلية في الجزائر العميقة تابعة لها وهي التي يفترض أن تشرف على نشاطاتها، وهي المسؤولة أيضاً عن تعيين الولاة ورؤساء الدوائر الذين يتسببون بتجميد القوانين، وفضلاً عن ذلك، فإن هذه الوزارة هي المكلفة الإشراف على سير إدارات رؤساء البلديات عبر الوطن.

ففي تقدير المتخصصين في محاربة آفة البيروقراطية، فإن السلطات الجزائرية تختزل غالباً تعيين المسؤولين الكبار على رأس المؤسسات الحساسة مركزياً وفي الجزائر العميقة في الأشخاص المتخرجين في المدرسة الوطنية للإدارة، علماً أن هذه المؤسسة التعليمية التقليدية تتحمل جزءاً من المسؤولية جراء إغراقها البلاد بمسؤولين إداريين فاشلين في كل القطاعات الحساسة، مثل البريد والنقل بكل أنواعه والسلك الدبلوماسي والمحافظات (الولايات) والدوائر والمالية والسكن وغيرها. فقد ساهم هؤلاء في تفشي ظاهرة تخلف تسيير مختلف المؤسسات الإدارية عبر الوطن وفي تأخير وتيرة التنمية التي تمثل في الواقع جوهر العمل السياسي والإداري معاً.

من المعروف أن الرئيس تبون يتمتع بأقدمية وبخبرة كبيرة في العمل الإداري وذلك منذ 48 سنة، حيث تولى مسؤوليات عدة، منها أمين عام في ولاية الجلفة في عام 1974، وبعدها تم تحويله سنة 1976 في المنصب نفسه إلى ولاية أدرار، وبعدها إلى ولاية باتنة سنة 1977، ثم إلى ولاية المسيلة سنة 1982، ثم عُيّن والياً على ولاية أدرار سنة 1983، وعلى ولاية تيارت سنة 1984، وعلى ولاية تيزي وزو سنة 1989.

وفي سنة 1991 التحق بحكومة سيد أحمد غزالي وزيراً منتدباً مكلفاً بالجماعات المحلية، ثم ترك الحكومة سنة 1992، وبعد ذلك استقر سنة 1994 في ولاية أدرار ثم استُدعي مجدداً إلى الحكومة عام 1999 ليشغل منصب وزير الاتصال والثقافة، ثم منصب وزير منتدب مُكلف بالجماعات المحلية للمرة الثانية. وفي عام 2001 عُيّن وزيراً لقطاع السكن والعمران إلى غاية 2002، ثم استُدعي من جديد سنة 2012 إلى منصب وزير السكن والعمران والمدن، وزيادة على ذلك تولى في سنة 2017 منصب وزير التجارة بالنيابة، وفي 24 أيار (مايو) 2017 تم تنصيبه وزيراً أول.

بالنظر إلى هذه الخبرة الطويلة، فإن الرئيس تبون يدرك تماماً، وربما أكثر من أي وزير أو رئيس آخر، المشكلات الكبرى التي تعرقل سير مختلف الإدارات الجزائرية، بما في ذلك الإدارات الحزبية المتكلسة وتلك التابعة للمجتمع المدني.

وفي هذا الخصوص، ثمة ملاحظون سياسيون يرون أن الرئيس تبون يحتاج إلى زمن أطول ليتمكن من معالجة المشكلات العالقة التي ورثها عن أسلافه الرؤساء السابقين، وتتمثل في ركام من التعقيدات السياسية والمالية والتنظيمية والتحديات الأمنية التي تكبّل الدولة الجزائرية، ويجهر هؤلاء بالقول بأن حكم الجزائر ليس بالأمر السهل، إذ يشبه كثيراً الركوب على ظهر أفعى جائعة.