في التغطية الإخبارية عن المظالم في غزة التي ربما لم تر عين مثلها ولم تسمع أذن بوحشيتها، تتكرر سردية "الأطفال" بكثرة في التغطية الإخبارية للهجوم الإسرائيلي الوحشي على القطاع وأهله البالغ عددهم 2.3 مليون ونيف.
في الشرائع الإنسانية الوضعية -التي أيضا يراها الناس من السماء- مكانة خاصة للأطفال، ونصوص تدعو لحمايتهم تحت أي ظرف كان، وعلى الخصوص في الأوقات العصيبة والحروب من ضمنها.
للطفولة براءة وهناك من يشبه الأطفال بالملائكة، لأنهم حقا أبرياء ولا يحملون وزر أي كان، حتى آبائهم وأمهاتهم إن أصبحوا هدفا للثأر. ولا يمضي يوم، والحرب على غزة مستعرة تطحن شهرها الرابع، إلا وللأطفال ذكر. سردية الأطفال تأخذ حيزا كبيرا في هذه الحرب. وما قتلته إسرائيل حتى الآن تجاوز عتبة الـ25 ألفا. هذا رقم مرعب حقا.
أولا، لأنه يعني أن إسرائيل قتلت نحو 250 فلسطينيا في اليوم الواحد.
ثانيا، وهنا نأتي إلى عنوان مقالنا لهذا الأسبوع، فإن جل هذ الرقم المرعب هم من الأطفال ثم النساء. إن أخذنا الإحصاءات الرسمية التي تؤكدها المنظمات المستقلة فإن إسرائيل تكون قد قتلت نحو عشرة آلاف طفل حتى الآن، أي بمعدل نحو 100 طفل في اليوم.
كيف تقع مظالم -أو بالأحرى- شرور مثل هذه؟ هل هناك تفسير فلسفي لكيف ولماذا يصل الأمر بالإنسان- أي كان- اقتراف مثل هذه الشرور.
الشر له فلسفة، أي أن هناك فلاسفة ومفكرين يحاولون تسليط الضوء على ما يدفع الإنسان إلى اقتراف الفظائع والمظالم ومن ثم لا يرف له جفن.
في مراجعة لوثائق المحكمة التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة المسؤولين عن المحرقة النازية التي أحرقت ستة ملايين يهودي أوروبي، جلهم من الأطفال والنساء- وهم أحياء- لم يعترف أي من الرموز هذه بقتل الأطفال.
"إننا لا نقتل الأطفال" بعبارات مثل هذه دافع النازيون عن وحشيتهم ومحرقتهم.
هناك كثر يقاربون بين ما يحدث في غزة وبين جريمة الإبادة البشرية، والمحكمة في لاهاي التي وجهت هذه التهمة إلى إسرائيل خير دليل.
بطبيعة الحال، لا تجوز مقارنة أي مظالم أو فظائع بمحرقة اليهود في أوروبا. هذه المحرقة تجاوز الإنسان الأوروبي، والألماني على الخصوص، في اقترافها ما لا يمكن أن يتخيله أي عقل مريض مهما كان، ولا يمكن أن ترد في خلد أي إنسان حتى في الحلم.
بيد أن هناك شقا آخر يقبل المقارنة والمقاربة، وهو شق السردية التي رافقت محرقة اليهود في أوروبا، التي رغم مرور أكثر من سبعة عقود عليها آثارها لا تزال محسوسة في الغرب، وعلى الخصوص في إسرائيل.
مقارنة ومقاربة السرديات التي ترافق المظالم والحروب يقع ضمن اختصاصي الأكاديمي. وأنا أقرأ عن السرديات التي رافقت المحرقة الأوروبية لليهود ووثائق المرافعات في محاكمة مجرمي الحرب النازيين أرى تقاربا وتماثلا في سردية قتل الأبرياء.
لقد أسهب الباحثون والفلاسفة في تمحيص السردية الألمانية التي رافقت المحرقة. من النادر أن يصادف القارئ تعابير أو جملا أو خطابا حتى على مستوى المفردة الواحدة فيه يعترف الجناة بذنبهم أو أنهم يبدون بعض الأسف على ما اقترفت أيديهم.
ما يميز السرديات المرافقة لمقترفي المحرقة في أوروبا لجوؤهم إلى أساليب وأطر لغوية لا تميط اللثام عن الفاعل أو مقترف الفظائع التي رافقت المحرقة في أوروبا وتلقي اللوم على ما حدث إما على الضحايا أو على الآخرين أو تقدم مبررات يراها أصحابها مقنعة، لكنها أقرب إلى ذر الرماد في العيون.
في السرديات التي ترافق المقتلة في غزة، هناك محاولات متعمدة لإخفاء الفاعل في الصحافة الإسرائيلية وأغلب الصحافة الغربية، حيث الاستناد إلى المبني للمجهول أو مصدر الفعل عند الحديث عن قتل الأطفال بالآلاف في غزة، كأن يسرد الصحافي: "قتل (مبني للمجهول) عشرة آلاف طفل فلسطيني في غزة، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية التي تديرها حماس"، أو "مقتل عشرة آلاف طفل فلسطيني في غزة، وفق بيانات وزارة الصحة الفلسطينية التي تديرها حماس".
تخشى الصحافة الغربية، بينها أمهات القنوات الإعلامية الشهيرة، اللجوء إلى سردية مثل "قتلت إسرائيل عشرة آلاف طفل فلسطيني في نحو 100 يوم من القتال في غزة" وهذا هو الواقع، كما هو الواقع أن حماس "قتلت 1200 إسرائيلي أغلبهم من المدنيين، بينهم نساء وأطفال".
لم أكن أعرف أن الأمر وصل إلى هذا الحد في التشابه بين السردية النازية والسردية التي ترافق الحرب في غزة، لكن عندما عرفت السبب بطل عجبي بعد جواب عن سؤالي لصحافي في واحدة من أشهر وسائل الإعلام الغربية طرأ، حيث قال: "هذه الصيغة أو السردية فرضتها علينا إدارة التحرير".
الآن من يصدق: "أننا لا نقتل الأطفال".
التعليقات