تحرص دولة الإمارات على ترسيخ مكانة الفتوى، وتنظيم شؤونها، لتؤتي ثمارها اليانعة، وتكون رافداً شرعياً وحضارياً مميزاً، يستفيد منها المجتمع أيما استفادة، لتروي ظمأ استفساراتهم، وتنير لهم دروب عباداتهم ومعاملاتهم، وتزودهم بالإجابات الشرعية النابعة من صحيح الدين، سواء كان ذلك استجابة لما يعرض لهم من تساؤلات واستشكالات، أو كانت فتاوى استباقية يقتضي الواقع بيانها وتوضيحها مواكبة للنوازل والمستجدات.
وهذا المجال لن يحقق غاياته المرجوة وأهدافه المنشودة، إلا إذا كانت الفتاوى نابعة من ضوابط محكمة، وأصول متينة، وقواعد راسخة، كما قرره علماء الشأن، المختصون بأدلة الشرع وقواعده، وما يقرره من مقاصد ومصالح، فلا يكون هناك مجال لتلاعب متلاعب، ولا تجاسر متعالم، ولا توظيف من قبل أصحاب أجندات أو أفكار مشبوهة، خاصة أن صيانة الدين من أي انحراف أو اختطاف هي من الضروريات الكبرى، ومن أهم مقاصد الشرع، لما يترتب على الإخلال بذلك من المفاسد والأضرار العامة والخاصة، وهنا يأتي دور المؤسسات الإفتائية في تلبية المتطلبات الاستفتائية بكل كفاءة واقتدار، وفق نهج استباقي منضبط.
ومن صور العناية بهذا الباب، ما صدر عن المجلس الوطني الاتحادي في دولة الإمارات من موافقة على مشروع قانون اتحادي بشأن مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، والذي يهدف إلى تمكين المجتمع الإماراتي بالفتاوى الشرعية، بما في ذلك الفتاوى الاستباقية، وبناء نموذج حضاري للفتوى، يستجيب للمستجدات، ويُعزز سمعة الدولة ورؤيتها، ويسهم في تنظيم شؤون الفتوى في المجتمع، وتطوير السياسات والتشريعات التي تخدم ذلك.
إن هذه الخطوة التشريعية خطوة قويمة مباركة، وهي لم تأتِ من فراغ، بل جاءت استجابة لضرورة الواقع الذي يقتضي ضبط الفتوى وتنظيم شؤونها، وبالأخص في واقعنا المعاصر في عصر الفضاء المفتوح والتقنيات الحديثة، التي أتاحت بكل سهولة ويسر، انتشار شتى الفتاوى على اختلاف مضامينها وأهدافها، وأياً كانت مصادرها أو ناشروها، حتى عمت بسبب ذلك الفوضى في المجتمعات، وأصبح الإنسان تائهاً حائراً، وهو يسمع الأقوال المتضاربة، والفتاوى المتناقضة، فلا يدري إلى أيها يتجه، بجانب أن كثيراً من تلك الفتاوى لا تستند إلى معايير شرعية صحيحة، ولا مقاصد معتبرة، فبعضها يروج للتطرف، وبعضها يدعم توجهات وتيارات معينة، وبعضها يحرض وينشر الفتن والاضطرابات، ويدعو للطائفية والتعصب وزعزعة الأمن والاستقرار، وبعضها يقتطع نصوصاً شرعية ينزلها في غير مواضعها الصحيحة، فيحلل ويحرم دون علم ولا برهان، فكانت الحاجة ملحة لمثل هذا القانون لتنظيم هذا المجال، وسد باب الفوضى.
كما أن جوانب هذا القانون لا تنحصر فقط في مكافحة الفتاوى المنحرفة والمتطرفة التي تعود بالضرر على الفرد والمجتمع والوطن، بل تشمل كذلك تمكين الفتوى الشرعية الصحيحة، ورفد المجتمع بما يحتاجه منها، وخاصة فيما تشتد الحاجة إليه، واتباع نهج استباقي يواكب المستجدات والنوازل، فيجد المسلم بذلك ما ينشده من إجابات في أمور عباداته ومعاملاته، خاصة أن المسائل التي تستجد لا تنحصر، والوقائع والحوادث التي تقع غير متناهية، فلا تزال المجتمعات تحتاج باستمرار في مختلف العصور إلى الفتاوى النيرة التي تبين أحكام المسائل والوقائع والحوادث التي تستجد فيها، ما يتطلب وجود جهات إفتائية متمكنة، قادرة على تلبية هذه الاحتياجات، دون توانٍ أو تقصير، وتقوم باستمرار بتأهيل الكفاءات الإفتائية التي يحتاجها المجتمع.
إن هذه الجهود الكبيرة في تنظيم الفتوى ووضع التشريعات والقوانين التي تخدم ذلك، تعكس ريادة دولة الإمارات في هذا المجال، وهي بذلك قدوة مشرقة، يجدر بالدول والمجتمعات أن تحذو حذوها في ضبط الفتوى وتنظيم شؤونها، فإن الحاجة إلى ذلك حاجة ماسة، لتنضبط بذلك الفتوى في المجتمعات، ويستغني الناس بالفتاوى الشرعية المنضبطة الصادرة من المؤسسات الوطنية المعتبرة عن الفتاوى الدخيلة، ويجدون فيها باستمرار ما يلبي احتياجاتهم من الإجابات في شؤون عباداتهم ومعاملاتهم، وما يستجد لهم من نوازل ومسائل، وبما يسهم في تقليص منابع الفوضى والتطرف، وإضعاف أثر الخطابات السلبية.
إن دولة الإمارات منارة ريادية مشرقة في شتى المجالات، بما في ذلك مجال الفتوى، انطلاقاً من نهجها المتميز في الارتقاء بالمجتمع، وتعزيز أفضل الخدمات، وترسيخ أرقى القيم.
التعليقات