يقام المهرجان السنوي للنخبة العالمية الثرية المسمى المنتدى الاقتصادي العالمي «WEF»، ويهدف منتدى دافوس الاقتصادي إلى مناقشة التحديات التي تواجه البشرية في 2024 وما بعده. يتم النظر إلى هذه التحديات في المقام الأول من وجهة نظر رأس المال العالمي، وتكون أي حلول سياسية مقترحة مدفوعة بهدف الحفاظ على النظام الرأسمالي العالمي.
وللحديث عن ما سبق بشيء من التفصيل، يدفعنا إلى أن نذكر ما كتبه الاقتصادي البريطاني مايكل روبرتس، ترجمة اوديت الحسين، تم الكشف عن الأزمات في تقرير المخاطر العالمية السنوي الصادر عن دافوس، والذي يجري دراسته استقصائية للمشتركين. يستكشف التقرير «بعضًا من أشد المخاطر التي قد نواجهها خلال العقد المقبل، على خلفية التغير التكنولوجي السريع، وعدم اليقين الاقتصادي، وارتفاع درجة حرارة الكوكب، والصراعات». ومع تعرض التعاون للضغوط، قد لا تحتاج الاقتصادات والمجتمعات الضعيفة إلا إلى أصغر صدمة لتجاوز نقطة التحول في المرونة.
بالنسبة للاقتصاد العالمي، فإن التقرير مثير للقلق. كانت قائمة «المخاطر» العشرة الأولى بالنسبة لأولئك الذين شملهم الاستطلاع في 2024 هي أزمة تكلفة المعيشة والركود الاقتصادي. ويقول التقرير: على الرغم من أن «الانحدار الأكثر ليونة» يبدو سائدًا في الوقت الحالي، إلا أن التوقعات على المدى القريب تظل غير مؤكدة إلى حد كبير. إذا ظلت أسعار الفائدة مرتفعة نسبيًا لفترة أطول، فستكون المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم والبلدان المثقلة بالديون معرضة بشكل خاص لضائقة الديون.
يصف التقرير هذا الوضع بأنه «غير مؤكد»، لكن المؤكد هو أن ما يسمى «الهبوط الناعم» أي التوسع الاقتصادي المطَّرد دون تراجع، يقتصر على الاقتصاد الأمريكي، وليس في أي مكان آخر، على الأقل بين الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة الكبرى. وحتى آفاق الاقتصاد الأمريكي لا تستحق الكتابة عنها على الرغم من الأحاديث المتفائلة من العديد من المصادر الأمريكية. اعترف بيل آدمز، كبير الاقتصاديين في بنك Comerrica بأن الاقتصاديين يتوقعون أن ينمو الاقتصاد الأمريكي وسطيًا بنسبة 1% فقط في عام 2024.
ولعل أبرز ما أشار إليه روبرتس في تحليله الأقتصادي هو، تبدو الأمور أسوأ في بقية اقتصادات مجموعة السبع؛ إنخفاض الاقتصاد الألماني بنسبة 0,3% في عام 2023، ومن الممكن أن يتراجع أكثر هذا العام، مع إنكماش الصناعة التحويلية في ألمانيا بمعدل 6-7% على أساس سنوي. لقد تحول اقتصاد كل من فرنسا والمملكة المتحدة إلى الوضع السلبي في الربع الأخير من عام 2023. والأمر نفسه بالنسبة لكندا واليابان، في حين تعاني إيطاليا من الركود. هناك العديد من الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة الأخرى التي تعاني بالفعل من الركود: هولندا والسويد والنمسا والنرويج.
يحدد البنك الدولي السبب وراء هذه الأزمات: «تباطؤ الاستثمار الإنتاجي من قبل الاقتصادات الكبرى في فرص العمل والدخل المولدة للقيمة. يضيف الماركسيون إلى ذلك بأن وراء هذا التباطؤ الاستثماري يكمن المستوى التاريخي المنخفض لربحية رأس المال العالمي باستثناء الأقلية الصغيرة من عمالقة التكنولوجيا والطاقة». لا تزال العديد من الاقتصادات النامية عاجزة بسبب «أكثر من نصف تريليون دولار من الديون.. والعبء المالي الزائد.. وتقلص الحيز المالي - أي قدرة الحكومات على الإنفاق على الاحتياجات الاجتماعية». قفز إنعدام الأمن الغذائي في 2022 وظل مرتفعًا في 2023.
ارتفعت الأسعار بالنسبة لمعظم الناس في العالم الرأسمالي المتقدم منذ نهاية الوباء بنسبة 20% في المتوسط، «ولا تزال ترتفع».
نتيجة لذلك، انخفض الدّخل الحقيقي للأسر المتوسطة منذ عام 2019، وهو في الواقع أكبر انخفاض في مستويات المعيشة منذ عقود. علاوة على ذلك، قد يبدأ التضخم بالارتفاع مرة أخرى مع التوترات في البحر الأحمر، وإذا بدأ تدمير «إسرائيل» لغزّة وسكانها الذين يبلغ عددهم مليوني نسمة، بالانتشار عبر الشرق الأوسط الغني بالطاقة.
يشير تقرير دافوس إلى الخطر الذي يواجه الرأسمالية من خلال ما يسميّه «الاستقطاب المجتمعي»، ويقصد الانقسامات المتزايدة بين الأغنياء والفقراء الناجمة عن الركود الاقتصادي الذي يؤدي إلى الخسارة السياسية لأحزاب رأس المال ومؤسساتها.لا يذكر تقرير دافوس مدى اللامساواة الاجتماعية في 2024، لكن منظمة أوكسفام تقدّم، كما في كل عام، تقريرها «البديل». ويلاحظ تقرير أوكسفام بأن الثروة المفرطة والفقر المدقع قد زادا في وقت واحد للمرة الأولى منذ 25 عامًا. خلال سنوات الوباء وأزمة تكلفة المعيشة منذ عام 2020، استحوذ أغنى 1% على 26 تريليون دولار «63% من الثروة»، حين ذهبت 16 تريليون «37%» إلى بقية العالم مجتمعة. زادت ثروات المليارديرات بمقدار 2,7 مليار دولار يوميًا ! ويأتي هذا على رأس عقدٍ من المكاسب التاريخية - حيث تضاعف عدد وثروات المليارديرات خلال السنوات العشر الماضية. في الوقت نفسه، يعيش ما لا يقل عن 1,7 مليار عامل في بلدان حيث يتجاوز التضخم الأجور، ويعاني أكثر من 820 مليون شخص من الجوع.
نقلت منظمة أوكسفام عن البنك الدولي قوله «من المرجح أن نشهد أكبر زيادة في اللامساواة والفقر على مستوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية». تواجه بلدانُ بأكملها خطر الإفلاس، حيث تنفق البلدان الأكثر فقرًا أربعة أضعاف ما تنفقه على الرعاية الصحية في سداد ديونها للأغنياء. تخطط ثلاثة أرباع حكومات العالم لخفض إنفاق القطاع العام بسبب التقشف - بما في ذلك الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم - بمقدار 7,8 تريليون دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة.
كالعادة، لا يقدم منتدى دافوس في تقريره أي حلول سياسية لعكس هذا المستوى البشع من التفاوت بين الناس أو حتى الحد الأدني منه - ولا حتى فرض ضريبة على الثروة. كما أن العالم شهد السّنَة الأكثر سخونة في 2023، حيث «تتهاوى سجلات المناخ مثل أحجار الدومينو». فقد وصل متوسط درجة الحرارة إلى ما يقارب من 1,5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي، وفقًا لوكالة مراقبة الأرض الأوروبية كوبرنيكوس. كان متوسط درجات الحرارة العالمية خلال عام 2023 أعلى من أي وقت مضى خلال المائة عام الماضية.
كانت هناك مسألتان أخريان تقلقان المشاركين في منتدى دافوس: الذكاء الاصطناعي وخطر احتمال ظهور «معلومات مظللة واسعة النطاق» من آلات الذكاء الاصطناعي التوليدية غير الخاضعة للرقابة. وكذلك العدد المتزايد من الصراعات المسلحة بين الدول في العالم.
يشعر رأس المال العالمي بالقلق إزاء الأضرار التي لحقت بالتجارة والاستثمار بسبب المنافسات الجيوسياسية وخيبة الأمل الاجتماعية الناجمة عن «المعلومات المضلَّلة» حول عدم المساواة والنمو الاقتصادي. لكن المشاركين أقل قلقًا بشأن فقدان الوظائف بسبب الذكاء الاصطناعي لمجموعة كبيرة من العاملين، أو بشأن الخسارة الفادحة في الأرواح والأطراف من الحرب الروسية الأوكرانية أو التدمير «الإسرائيلي» لغزّة، أو الملايين من الجياع والنازحين في الحرب الأهلية في السودان، أو قصف المدن والأشخاص في اليمن.
نأتي إلى الاستنتاج الذي يريدنا أهل دافوس أن نعتاد عليه ونقبلَه كأنه من المسلمات: «مع دخولنا عام 2024، نسلط الضوء على توقعات سلبية في الغالب للعالم على مدى العامين المقبلين، والتي من المتوقع أن تتفاقم خلال العقد المقبل… التوقعات أكثر سلبية بشكل ملحوظ على مدى الأفق الزمني البالغ 10 سنوات، يتوقع ما يقرب من ثلثي المشاركين توقعات عاصفة أو مضطربة».
التعليقات