قبل سنواتٍ خمس وفي الرابع من فبراير 2019، جمعت أبوظبي شيخ الأزهر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب مع البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وتم في ذلك اليوم المشهود توقيع «وثيقة الأخوة الإنسانية» التي تدعو لحوار الأديان والتعايش والتسامح في مبادئ إنسانية نبيلة، وضرورية لتعايش البشر مع بعضهم بعضاً، والأهم أنها قابلة للتطبيق والنشر والرعاية، بمعنى أنها تفتح طريقاً رحباً لمراجعة خطابات التطرف ونقضها وتحييدها وبناء خطابات التسامح وبثها وترسيخها.
باقتراحٍ إماراتي، ودعمٍ سعودي ومصري وبحريني، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة وبالإجماع الرابع من فبراير يوماً عالمياً للأخوة الإنسانية، وهو تتويجٌ لجهدٍ إماراتي استمر لسنواتٍ قبل توقيع الوثيقة، وكان يراهن دائماً على سماحة الإسلام وقدرته الذاتية على بناء السلام ونشر الخير، وبث التسامح، وأن الحوار يمكن أن يكون بديلاً عن الصراع والقتال والتعايش بين الأديان غاية نبيلةٌ ممكنة بعيداً عن دعوات «التقريب» بين الأديان أو المذاهب والتي اجتهدت فيها تيارات ورموز وألفت فيها مؤلفات وكتبت تنظيرات ولم تؤدِّ إلى شيء؛ لأن «التقريب» دعوة غير واقعية وغير عملية، بما أنها تطلب من أتباع الديانات أو المذاهب تغيير ما هم عليه للتقارب مع الآخر، وهذا لا يصنعه المؤمنون من كل دينٍ ومذهبٍ، بينما «التعايش» عمليٌ وممكن و«التسامح» يمكن الجميع من الاتفاق على مشتركاتٍ إنسانية كبرى.
النصوص المقدسة في الأديان بطبيعتها مفتوحة للتأويل على الدوام، ومع ازدياد المعارف البشرية والعلوم الإنسانية والحاجات الطبيعية يتمكن الناس دائماً من إعادة القراءة والاكتشاف والتأويل، وقد قامت في الإسلام مدارس كبرى في العقائد والفقه والسلوك بنيت جميعاً على منظومات تأويلية مختلفة ومتضادة وجرى بينها جدالات كبرى وصراعات ضخمة، انتهى بعضها وبعضها مستمرٌ، وبتعاقب القرون وتطورات العلوم والبشر تطوّر ذلك كله.
في داخل كل منظومة من المنظومات التأويلية المختلفة تياراتٌ متعددةٌ، بعضها يميل للتيسير وبعضها يميل للتشدد، فيها من يعتمد الحرفية الظاهرية في قراءة النص وفيها من يفتح التأويل على مصراعيه حتى تفقد اللغة معانيها، ومثل ما جرى في الإسلام جرى في غيره من الأديان والفلسفات الكبرى، وهذا جزء من طبيعة البشر وتطور العقل وزيادة المعرفة.
المتطرفون في الإسلام كثرٌ، وفي تراث المسلمين مذاهب وتياراتٌ ورموزٌ تطرفت ضد بعضها بعضاً، وكفرت بعضها بعضاً، ونشرت البغضاء والكراهية بين المسلمين أنفسهم فضلاً عن غيرهم، ودون الاشتباك الحقيقي مع هذه الطروحات القديمة فإن بناء الجديد سيظلّ ضعيفاً وغير متماسك وراسخ وقويٍ. هذا التطرف والتشدد القديم أضيف له تطرفٌ جديدٌ في الإسلام مع خروج جماعات الإسلام السياسي قبل ثمانية عقودٍ، وهو ما يستلزم اشتباكاً فكرياً عميقاً. أخيراً، فالجدالات الفكرية مهمةُ المثقفين والمفكرين والباحثين لا مهمة الحكومات والدول.
التعليقات