شغلني السفر في الأشهر الثلاثة الفائتة عن مطالعة الكتب، واكتفيت بأخبار السياسة، خصوصاً ما يتصل منها بالحرب على غزة، والنار التي ما فتئت تشتعل في جنوب لبنان، وتنذر بحرب لا أحد يعرف مداها وذيولها، وهي مسائل يصعب على أي مواطن لبناني أو عربي تجاهلها، أو الوقوف منها موقف اللامبالاة، لأنها أحداث تدور في منطقة جغرافية فيها بلاده، ولأنها، من الوجهة الإنسانية الخالصة، تمسّه في الصميم، على الرغم من أيديولوجياتها الدينية القاتلة!

من الكتب التي فاتتني قراءتها، كتاب عنوانه "السيد cooper وتابعه"، و"كوبر" هذا اسم لكلب، أما الكتاب، فهو جديد الشاعر اللبناني عقل العويط.

أخذت الكتاب لسببين؛ الأول، لأن العنوان غريب، إذ لم يحدث أن قرات كتاباً عن كلب، لا في العربية ولا في اللغات الأجنبية، والثاني لأني أعرف هذا الكاتب وهذا المكتوب عنه معرفة شخصية، فهذا الكلب، أو السيد "كوبر" هو ربيب الشاعر، وهو أحد معارفي من بني الحيوان، رافقت نشأته في مراحل معينة وهو جرو صغير، ممتلئ القامة أبيض البشرة أشقر الشعر، وكان ذلك خلال زياراتي بيت الشاعر بمنطقة "الأشرفية" في بيروت.

وكان "كوبر"، كلما رآني أدخل شقة الشاعر الصديق، يثب عليّ وثبة الأسد، ولا يتركني أرتاح متى قعدت في الكنبة، أو متى جلست إلى المائدة، لأتناول اللبنة والزيتون والصعتر، والبيض المقلي في الفخارة، والواناً شهية أخرى من خيرات ضيعة الشاعر المعطاء "بزيزا"، الواقعة في إقليم الكورة. وكنت كلما شبّ "كوبر" علي، أتذكر الأديب الساخر الراحل سعيد تقي الدين، وقوله، بأنه لم يعرف مقدار وفاء الكلاب لأصحابها، إلا عندما رآها تعض الضيوف! ولأنني أجهل العلم بالكلاب وأنواعها وأجناسها ودرجات هياجها، لم أعرف في البدء أن وثبات "كوبر" عليّ، كانت بدافع التقرب والتصادق، وخالطني شعور غريب حسبت فيه أن "كوبر" لا يحبني، ويحسبني ضيفا ثقيلاً عليه وعلى صاحبه، وعلى وشك أن ينالني بعضة، مثل عضّات كلاب "بعقلين"، إلى أن جاء يوم عقدنا فيه هدنة دائمة، وأصبحنا "زميلين"، وصارت العلاقة بيننا على أحسن ما يرام!

"السيد كوبر وتابعه"، صحائف قريبة من القصة ونصها جميل، واضح سلس، لا تعقيد فيه ولا التواء، وأجمل ما فيها، الطريقة التي حملت "التابع" أو المؤلف على تبني هذا الحيوان، أو هذا "السيد"، كما يحلو للشاعر أن يدعوه. وما كان هذا التبني يحصل وفق قول المؤلف، لولا "أنسي"، الابن الوحيد للشاعر، والذي لولاه "ما كان لهذا الكائن كوبر أن يكون صديقي وأخي وتوأمي، ولا أن يكون السيد كوبر". يمضي المؤلف فيقول "إن فكرة التبني جاءت من أنسي، وهو مذ كان طفلا وهو يلح عليّ أن نوسع عائلتنا، وها أنا أسميه السيد كوبر باعتباره سيداً على ذاته، مستحقاً هذه السيادة على اسمه، وعلى كينونته".

حين مضيت في قراءة الكتاب، ورأيت ما نشأ بين المؤلف و"كوبر" من علاقة حميمة، تذكرت ما قرأت في المأثور الديني المختلف، والثقافي المختلف، من كلام يحط من قدر الكلاب، وتذكرت في الوقت نفسه، كلاماً يرفع من قيمة هذا الكائن الأليف. تذكرت أيضا أنه كان لبعض أدباء مصر الكبار كلابهم. كان لطه حسين كلب يحبه من دون أن يراه طبعاً، وإذا كانت سوزان، زوجة طه حسين الفرنسية هي المرأة التي أبصر بعينها كما كتب في "الأيام"، فقد كان كلب "عميد الأدب"، مؤنسه الشفوق في ساعات حزنه، ونوبات الكآبة التي كانت تنتابه في السنوات الأخيرة من حياته. كان لعباس محمود العقاد كلبه أيضا، وكان اسمه "بيجو"، وقد حزن "الكاتب الجبار" على وفاة كلبه حزناً لم يفارقه قط، ورثاه في قصيدة أثيرة عنوانها "دموع على قبر كلب"، وأذكر أن اول مقال نشره لي الراحل أنسي الحاج في ملحق "النهار"، كان لقاءّ مع الكاتب المصري المعروف محمود تيمور، في مقهى "غروبي" في القاهرة، وفيه بدا "شيخ القصة العربية"، كما كان المثقفون في مصر يدعونه، حزينا، وحين سألته عن سبب حزنه، أجابني بأنه كان عنده كلب رافقه سنوات طويلة ومات.

إن شاعراً مثل عقل العويط، يعيش القصيدة ويعجنها في خياله، ليطرحها على الملأ، وجبة روحية ثقافية لمن يهوى الشعر، لخليق بأن يكون له كائن يشاركه وحدته وتأملاته، وليس من المستغرب أن يسبغ الشاعر على كلبه هذا صفة السيادة، ويدعوه السيد "كوبر"، ويقدمه على نفسه ويقول، أي الشاعر، إنه تابعه، ما يذكّرنا بأفضال الحيوان على الإنسان وهي كثيرة، وأكثر بما لا يقاس من أفضال الإنسان على الحيوان، وتلك حقيقة ناصعة يعرفها البشر مذ كانت الأرض وكان البشر، فلولا الجِمال ما كانت قبائل العرب تحصل على قوتها، ولولا البغال والحمير، ما كان بمقدور قائد مثل الإسكندر المقدوني أن يغزو مناطق كثيرة من العالم القديم، ولولا الحمام الزاجل، ما كانت الأديان انتشرت وسادت، ولا كان بمقدور مترهب سجين مثل بولس الرسول، أن يوصل رسائله إلى أهالي "غلاطة" و" كورنثوس"، وغيرها من المناطق الهيلينية النائية، ولا كانت الكتب والحضارات انتقلت من شعوب إلى شعوب، وفي آداب العرب كتاب عنوانه " فضل الكلاب كثير على من لبس الثياب" منسوب لعلامة عاش قبل ألف سنة اسمه "ابن المرزبان" وفيه حكايات ومرويات كثيرة عن وفاء الكلاب لأصحابها.

لن أستفيض في نقل ما في الكتاب من نثر نضر، يجعلنا نصطنع مناجاة الشاعر مع "كوبر"، ونفكر كما يفكر، ونشعر كما يشعر، ونحاور أنفسنا ونحاكيها، كما تحاكي طفلة صغيرة لعبتها العروس، وأدعو القارئ الكريم إلى اقتناء الكتاب لما بين دفتيه من حوار مع الذات، ومع "كوبر" نفسه، حوارات وتأملات ذاتية من السهل أن تُدرج في باب التأملات الروحية، وباب علم النفس، وباب الأدب والفلسفة ايضاً، وقد وجدت تشابهاً بين هذا الكتاب، وبين كتاب أخر كنت قرأته في صباي، عنوانه "اللامنتمي"، لكاتب إنكليزي شاب كان في الخامسة والعشرين من العمر، اسمه كولن ويلسون. رحل ويلسون قبل نحو عشر سنوات عن 82 عاماً، وكان من أكثر كتّاب اللغة الإنكليزية غزارة في التأليف. ألّف أكثر من مئة كتاب، بينها روايات، وموضوعات نفسية وفلسفية في غاية التعقيد، لكن "اللامنتمي" كان الكتاب الذي أطلق شهرته في العالم. كان ويلسون فقيراً عندما كتب "اللامنتمي". لم يقو على دفع إيجارغرفته، فاضطر إلى أن يلتحف فراشاً في حديقة "هامستد هيث" العامة في لندن، وفيها وضع كتابه الذي هو أشبه بسيرة ذاتية، يصوّر فيه صراع الذات حيال بؤس العالم، وكيف تصل النفس إلى ذروة الفرح، ثم لا تلبث أن تسقط في قعر اليأس بعد حين، وكيف أن الشعور بالسعادة حال موقتة، فيما اليأس حال غالبة دوماً، يختبرها المرء منذ أن يولد إلى يوم يموت.

أعود إلى كتاب الشاعر العويط، وأقول إن في تراث العرب وأشعارهم، كلاما كثيراً عن الكلب، وفيه كثير من الهجاء، لكن فيه أيضاً ما يجّل الكلب ويسبغ عليه قيمة معتبرة. وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، تذكرت ان الصديقة التونسية، الدكتورة رجاء بن سلامة، الباحثة في جامعة السوربون، كانت أرسلت إليّ قبل أيام، رسالة هاتفية تضمنت قولاً مثيراً أثيراً للإمام علي في الكلاب. عدت إلى هاتفي لأفتحه على رسالة الصديقة رجاء، فوجدت قول الخليفة الرابع، قد ورد في الصفحة 297 من كتاب "عجائب الملكوت"، وفيه مديح للكلب وصفاته المحمودة، في إيجاز قلما نجد له نظيراً في لغة العرب، وأنقل قول الإمام علي في الكلاب، حسبما جاء في هذا الكتاب:" طوبى لمن كان عيشه كعيش الكلب، ففيه عشر خصال ينبغي أن تكون كلها في المؤمن. أولها ليس له مقدار بين الخُلق وهو حال المساكين، وثانيها أن يكون فقيراً ليس له مال، ويكون صفة المجردين، وثالثها ليس له مأوى معلوم والأرض كلها بساط له، وهو من آداب المتوكلين، ورابعها أكثر أوقاته جائعاً، وهو من آداب الصالحين، وخامسها إن ضربه صاحبه لا يترك بابه، وهو من علامات المريدين، وسادسها لا ينام من الليل إلا اليسير، وذلك من صفات الخاشعين، وسابعها أن يُطرد ويُجفى، ثم يُدعى فيجيب ولا يحقد، وذلك من علامات العاشقين، وثامنها أكثر عمله السكوت، وذلك من علامات المرتاضين، وتاسعها يرضى بما يدفع إليه صاحبه، وهو حال القانعين، وعاشرها إذا مات لم يبق له شيء من ميراث، وهو من مناقب الزاهدين".

من حق شاعر مثل عقل العويط، ومن طالع سعده، أن يكون له كلب يواسيه، ويخفف عنه مشاق العمل وأثقال الحياة، ومن حق "كوبر"، وهو في بيت هذا الشاعر اللبناني، أن يكون مكرّماً وسيداً على نفسه، وفي بلد مثل لبنان، ما أكثر ما يحتاج كثيرون من الناس إلى أن يكونوا مثل "كوبر" هذا، أسياداً على أنفسهم مكرّمين، بدلا من أن يكونوا خانعين خاضعين لهذا "الزعيم" أو ذاك، وأجدى لهم أن يساكنوا حيوانات أليفة، من أن يعيشوا تحت حكم أبالسة جائرين، أو يساكنوا أناساً كالعبيد، ينتخبون سياسيين لا نظير لهم في أي بلد، ولا أمل منهم يُعقد، ولا خيراً يُرتجى، يفتقرون إلى المسؤولية الوطنية، وإلى نزر ولو يسير من وفاء الكلاب!

لقد تغير لبنان، وتغير كثيراً، ومعه تغيرت مشاعر الناس وطرائق عيشهم، وصاروا يتحسرون على أزمنة، كانت العلاقات فيها بين الأهل والجيران طيبة بريئة حميمة، ومن الحِكَم ما قيل: "كان الناس ورقاً لا شوك فيه فصاروا شوكاً لا ورق فيه".

إن كائناً مثل "كوبر"، لا يقرأ ولا يتكلم، ولا يعرف أن رفيقه الشاعر، قد وضع عنه كتاباً جميلاً ملؤه الحب والغيرة والعطف والحنان، لكنه، اي "كوبر"، لا يحتاج إلى أن يقرأ أو يتكلم، ليشكر للشاعر صنيعه، فهو بحكم الطبيعة، سيد مفطور على الوفاء، وعلى حفظ الود بالود، وأكثر وفاء من وفاء أقارب هم كالعقارب، على حد قول الشيخ ناصيف اليازجي، وأكثر وفاء من أناس نلقاهم في حياتنا هذه المتشعّبة، ونظنهم خلاناً أصفياء أوفياء، فإذا الزمن يكشف لنا حقيقة أمرهم، وقد يكون الكاتب الأميركي المعروف مارك توين، أفضل من عرف فضل الكلاب على من لبس الثياب، وفهم المفاضلة بينها وبين بعض البشر، حين كتب يقول: "كلما ازددت معرفة بالناس، زاد تعلقي بكلبي"!