لن يعيد الأميركيون ترميم قدرة الردع الخاصة بهم في منطقة الشرق الأوسط ما لم يهددوا مصالح إيران مباشرة. فاستهداف الوكلاء لا يكفي ولن يكفي، لأن إيران لا تعبأ بوكلائها، ولا تتوقف عند أرقام قتلاهم، وفق تقديرات مدير الـ“سي أي آي" وليم بيرنز في مقالته الأخيرة في مجلة "فورين آفيرز". بيرنز كتب: "النظام الإيراني مستعد للقتال حتى آخر وكيل إقليمي لديه". إذاً، وحده التهديد الواضح لمصالح إيران المباشرة، إما باستهداف بناها التحتية العسكرية أو أصولها العسكرية، أو باغتيال كبار ضباط “فيلق القدس" وتصفيتهم منهجياً كما يفعل الإسرائيليون، يبعث برسالة ردع جدية من أميركا.

ما تقدم هو تقييم دبلوماسي عربي في ضوء موجات الضربات الأميركية التي صوبت في اتجاه الفصائل الإيرانية في كل من العراق وسوريا واليمن. والتقييم المشار إليه لا يتوقف عند حجم الضربات أو عدد الأهداف التي تم تدميرها من أصل 85 هدفاً. كما لا يتوقف عند عدد قتلى قيادات من لواء "فاطميون" التي تستخدمها طهران كواجهات لحروبها التوسعية في المنطقة. ولا حتى عند عدد قتلى جماعة الحوثي ومنصات إطلاق الصواريخ والمسيرات والمستودعات التي دمرتها الطائرات الأميركية والبريطانية في جولات متلاحقة منذ الثاني عشر من شهر كانون الثاني – يناير الماضي.

ما يهم إيران على سبيل المثال هو ألا تقوم أميركا بإغراق سفن التجسس الإيرانية المرابطة في خليج عدن اليوم، كالسفينتين "بشهاد" و"سافيز" اللتين قامتا بدور مركزي على مستوى القيادة والسيطرة والتوجيه للصواريخ والمسيرات المفخخة الحوثية، منذ أن بدأ الحوثيون حملتهم ضد الملاحة الدولية تحت شعار منع السفن الإسرائيلية أو تلك التي على علاقة معها من العبور عبر مضيق باب المندب.

نحن نورد السفينتين كمثل على أصول إيرانية متدخلة مباشرة في الأعمال القتالية التي تعرقل حرية الملاحة الدولية في باب المندب والبحر الأحمر، تحت شعارات زائفة مستغلة حرب إسرائيل ضد غزة كغطاء معنوي ودعائي. طبعاً هناك مئات الأهداف الإيرانية المؤلمة، حتى خارج الأراضي الإيرانية نفسها. هناك مئات السفن التجارية المملوكة من إيران التي تجوب البحار عبر العالم.

لكن الأهم يبقى الهدف السياسي الذي تريد الولايات المتحدة تحقيقه. هل لديها إرادة لردع إيران أم أن جل ما تسعى إليه هو صفقة جديدة مع إيران تفضي حكماً إلى توسيع نطاق النفوذ الإيراني في الشرق وتعزيزه على حساب حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين. وتكون في النهاية وسيلة لإضعاف النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط نفسه. ومن هنا تفترض الضربات الأميركية الأخيرة ضد وكلاء إيران في المنطقة أن هؤلاء سيراجعون سلوكهم. أو أن إيران ستراجع سياستها فتحجم عن التضحية بوكلائها الذين تحولوا إلى أكياس رمل لحماية إيران المطمئنة إلى حصانة نظامها داخل حدودها.

صحيح أن الولايات المتحدة تحاذر التورط في حرب مع إيران. لكن الصحيح أيضاً أنها ليست قادرة حتى الآن على ضبط سلوك إيران في الإقليم. ولهذا الأمر نتائج سلبية جداً على تطلعات واشنطن لمرحلة ما بعد حرب غزة، إذ ترمي إلى الدفع قدماً في اتجاه عقد صفقة تاريخية مع دول الخليج، في مقدمتها المملكة العربية السعودية، تحمل في طياتها معاهدة دفاعية بين أميركا والسعودية، وتطلق عملية التطبيع المرتبطة بحسب الشرط السعودي بقبول إسرائيل بقيام دولة فلسطينية وفق روحية المبادرة العربية لعام 2002.

لن تقدر أميركا على حماية الممر الهندي الذي أعلن عنه نهاية الصيف الماضي، ولا الصفقة التاريخية التي تطمح إليها في الشرق الأوسط قبل أن ترمم قدرتها على ردع إيران بوضوح. هذا هو الممر الإلزامي لاستمرار الولايات المتحدة لاعباً رئيسياً في المنطقة قبل الصين وقبل روسيا.