المزاد الفلسطيني مفتوح. منذ متى؟ منذ وعد بلفور. حين صارت فلسطين أرضا من غير شعب لتوهب إلى شعب من غير أرض. كذبة على الضفتين. أما حين انسحب المحتل البريطاني وسلمها لليهود ليقيموا على أرضها دولتهم فقد بالغ العرب في حبها و”أخي جاوز الظالمون المدى”. تنافسوا عليها. وصار بعضهم يشهر بالبعض الآخر. وكان سلاحهم فاسدا. وعصف بهم أحمد سعيد من إذاعة صوت العرب ليكشف عن معجزتهم الوحيدة كونهم أمة لسان. “العرب ظاهرة صوتية”، كما قال السعودي عبدالله القصيمي. انتقل الخط البياني من نكبة إلى نكسة إلى نصر لم يكتمل. فاجأهم بطل العبور بزيارته الطائشة إلى إسرائيل. أما حين عزلوا مصر فقد بدأ الخط البياني لانهيار مشروعهم القومي الذي مُسح بالأرض يوم احتلت القوات العراقية الكويت. في ذلك اليوم المشؤوم، كانت ورقة فلسطين جاهزة على المنصة فيما المطرقة تنتقل بين الرؤوس كما لو أنها تضرب على مفاتيح بيانو. لقد اتضح أن فلسطين لم تكن إلا خلفية لصراع عربي – عربي ونُسيت إسرائيل.
مَن الظالم ومَن المظلوم؟ يعتقد الفلسطينيون أن العرب ظلموهم. في المقابل، فإن العرب يعتقدون أن فلسطين، وهم يقصدون قيام إسرائيل، كانت خشبة نعشهم. وافقوا على قرارات دولية كانوا رفضوها حين صدرت، لكن بعد فوات الأوان. ولقد سمحوا للعالم بأن يضحك عليهم، فيما كانوا يقيمون أنظمة استبدادية مخافة أن تسمح الحرية بضياع قضيتهم المركزية الأولى. أجلوا الحياة الحقيقية. وحرمت الأنظمة شعوبها من أن تقف عند الحد الأدنى من إنسانيتها بسبب رغبتها في التفرغ للقضية. كبلوا أنفسهم بالأصفاد من أجل تحرير فلسطين. وكان السؤال الحائر “أيمكن للمستعَبد في وطنه أن يقاتل من أجل تحرير الآخرين في بلاد أخرى؟”، كانت فلسطين شعارا اُستنزفت من أجله ثروات شعوب، عاشت تنتظر على أمل أن يكون تحريرها نهاية لما تعيشه من ذل وهوان وإفقار وتخلف وانحطاط. كانت الشعوب تكذب على نفسها. فالأحزاب التي استباحت دولا بأكملها وكانت فلسطين رايتها لم تكن في حقيقتها إلا مدارس للإرهاب الذي يُمارس برعاية القانون. فمنذ أن احتلت فلسطين وأُقيمت الأنظمة الوطنية العربية توقف العقل العربي الناشئ عن التفكير وانتهى الأمل بولادة نهضة عربية جديدة وانقطعت صلة العالم العربي بالعالم. “أنت تسأل والحزب يجيب”.
أما حين انتقلنا إلى زمن، انتهى فيه الكفاح الوطني الفلسطيني حين اختارت منظمة التحرير الفلسطينية أن تكون جهة سياسية مفاوضة بعد أن كانت قوة مسلحة تتفاوض مع عدوها من خلال فوهة البندقية، فقد سحب العرب أوراق دفاعهم عن القضية، لكن بعد أن صار أمنهم القومي مخترقا وصار في إمكان أي عابر سبيل أن يرسم في الهواء خططا لتحرير فلسطين ليمزجها بطين مزاجه في اليوم التالي، بغض النظر عن الثمن الغالي الذي يدفعه البشر الذين وصلوا إلى مرحلة اليأس وهم يرددون الأناشيد الوطنية. ذلك ما فعله حزب الله الذي هو في حقيقته مترجم مُحلف لكلمات الولي الفقيه في إيران عام 2006. فإذا كانت ضرورة وجود ذلك الحزب قد انتهت عام 2000 بتحرير الجنوب اللبناني، فإن ذلك الحزب الذي هو ميليشيا مسلحة قد وجد في الدخول إلى المزاد الفلسطيني مناسبة لاستعادة شرعيته. هي شرعية مضللة مارس من خلالها الحزب هيمنته على الحياة السياسية في لبنان وصولا إلى تحويله إلى بلد منزوع السيادة، تابع بطريقة أو بأخرى إلى إيران.
هناك مَن يقول “لقد أخطأ العرب في ركوب الحصان الفلسطيني”. في لحظة ضعف تاريخية جُرد الفلسطينيون من قضيتهم. كل الأنظمة السياسية العربية التي تاجرت بفلسطين كانت قد مهدت للتضليل الذي تمارسه المقاومة الإسلامية التابعة إلى إيران باسم فلسطين. لقد كشفت حرب غزة أن جمهورا لا يُستهان بنسبته من العرب صار يؤمن بأن محور المقاومة الإسلامية الذي تقوده إيران هو الذي يملك مفتاح الحل في مواجهة الكيان المغتصب وأن إيران هي القوة التي ستعيد للفلسطينيين حقوقهم فيما فشل العرب بذلك. وهو ما دفع ذلك الجمهور إلى تأليف أطول معلقة في هجاء العرب. وهي المعلقة التي تفوق الشاهنامة طولا.
ما نعيشه في الواقع ليس حقيقيا. ذلك لأن كل الجماعات المسلحة التي وجدت في غزة مناسبة لاستعراض عدائها للولايات المتحدة لا تجرؤ على توجيه صاروخ واحد في اتجاه إسرائيل. ذلك موقف إيراني صارم. ليست فلسطين قضيتها. لا يجد زعماء تلك الميليشيات ضرورة في أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، بقدر شعورهم بضرورة أن يكونوا إيرانيين أكثر من الإيرانيين.
التعليقات