ثلاثة أحداث في عام 1979 هزت الشرق الأوسط والعالم. نجاح الثورة الإيرانية التي أمسك بها الإمام الخميني ثم أقصى قياداتها الأخرى. سلام "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل. وخروج القوات السوفياتية من أفغانستان. كامب ديفيد كانت بداية مختلفة في الصراع العربي- الإسرائيلي قادت إلى مفاوضات وتسويات وإعلان القمم العربية أن "السلام خيار استراتيجي".
خروج القوات السوفياتية قاد بعد عقد واحد إلى سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية القطبية الثنائية على قمة العالم لصالح الأحادية الأميركية. وجمهورية الملالي التي صار عمرها 45 سنة الرافضة لأن تصبح "دولة" والمصرة على أن تبقى "قضية وثورة" أحدثت زلزالاً في المنطقة. خدمها الغزو الأميركي للعراق أيام الرئيس بوش الابن. وأفادها جنوح الرئيس باراك أوباما إلى التركيز على الشرق الأقصى لمواجهة الصين، ودعم وصول الإخوان إلى السلطة في مصر وتونس وسعيهم لذلك في سوريا وليبيا، إلى جانب الرهان على دور إيراني واسع، بحيث يتم تقاسم العالم العربي بين "بلوك سني" تقوده تركيا أردوغان و"بلوك شيعي" بقيادة إيران.
جزء من هذا التصور سقط بثورة شعبية في مصر دعمت إسقاط حكم الإخوان بقيادة الفريق عبدالفتاح السيسي الرئيس الحالي. والجزء الآخر أكملت العمل عليه طهران من خلال خطة خطرة: تأسيس ميليشيات مذهبية أيديولوجية مسلحة في العراق وسوريا ولبنان، ودعم الحوثيين في اليمن، والإمساك بورقة القضية الفلسطينية من ثم دعم "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة. أما أولويات النظام فإنها بالطبع حفظ وصية الخميني: "الحفاظ على النظام واجب الواجبات". "نشر الثورة" بإقامة سياج أمني يحمي النظام الإيراني ومشروعه ويقوم بالنيابة عن طهران بحروب لا علاقة لبلدان الميليشيات بها. دخول العالم العربي عبر الورقة الفلسطينية والحديث الدائم عن "إزالة إسرائيل". العداء لأميركا الذي عده الإمام الخميني من "أسس الثورة". والتركيز على القوة الصلبة عبر المشروع النووي والبرنامج الصاروخي وصناعة المسيرات.
وأكثر ما لعب لمصلحة إيران عاملان: أولهما "سياسة رقاص الساعة" في واشنطن، لجهة الاتفاق مع طهران على البرنامج النووي وغض الطرف عن نفوذها في المنطقة، ثم الخروج من الاتفاق وممارسة "الضغط الأقصى" أيام الرئيس دونالد ترمب من دون تأثير، ثم العودة إلى التفاوض غير المباشر من أجل الاتفاق أيام الرئيس الحالي جو بايدن. وثانيهما التطور الذي طرأ على استراتيجيات الحروب في عصر المسيرات والصواريخ. وقد وظفت إيران هذا التطور بشكل كامل، حيث التركيز على قوتها الصاروخية وتقديم الصواريخ والمسيرات للفصائل المرتبطة بالحرس الثوري.
وأهم ما فعله التطور هو تعاظم ظاهرة "القوى غير الدولتية" التي تعتمد عليها جمهورية الملالي. كيف؟ في التغيير الجيوسياسي والاستراتيجي الذي فعلته الصواريخ والمسيرات لم تبق هناك دول كبيرة وأخرى صغيرة. كل دولة مهما تكن صغيرة تستطيع إيذاء دولة كبيرة. وكل قوة غير دولتية قادرة على تهديد أقوى الدول. الفصائل العراقية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني تقصف القوات الأميركية في العراق وسوريا وتفتح باب خروجها من العراق. الحوثيون في اليمن يهددون الملاحة في البحر الأحمر ويقصفون السفن الأميركية والبريطانية من دون أن يردعهم القصف الأميركي والبريطاني.
"حماس" تربك الجيش الإسرائيلي وتمنعه من تحقيق أهدافه في حرب غزة كذلك من حماية المستوطنين في غلاف غزة. و"حزب الله" يشل قدرة إسرائيل على حماية مستوطنيها في الجليل، وحتى على حماية معسكراتها القوية والمحروسة جيداً. حتى حرب أوكرانيا، فإن الهجمات البرية فيها صارت قليلة، والتركيز على تبادل القصف بين روسيا وأوكرانيا بالمسيرات والصواريخ. ومن الأمور اللافتة قول الجنرال فاليري زالوجني الذي قاد القوات الأوكرانية ثم أخرجه، أخيراً، الرئيس فولوديمير زيلينسكي من منصبه وأعطاه للجنرال سيرسكي: "العمليات العسكرية الحديثة مستحيلة من دون الاستخدام الكثيف للمسيرات".
التعليقات