قائل العبارة الواردة في العنوان هو ليف تولستوي الروائي العظيم، ومواطن كل من شاعر روسيا الأشهر الكسندر بوشكين وكاتبها القصصي والمسرحي الأشهر أنطون تشيخوف. أراد تولستوي بهذا القول الإشارة إلى أن قامة تشيخوف الأدبية تضاهي قامة بوشكين، حتى لو كان أحدهما برز كشاعر والثاني كسارد.
هذه المقارنة من تولستوي تتيح لنا التأكيد مجدداً أنه لا يجوز تقسيم مراحل الأدب الحديث بشكل اعتباطي، فنصف زمناً ما بأنه زمن الشعر، ونصف زمناً آخر بأنه زمن الرواية. الأدب العظيم لا يبلى بصرف النظر عن زمنه، وليس مهماً أن يكون شعراً، أو سرداً، وكما تقدّم الأمم روائيين وقاصّين كباراً، فإنها تقدم أيضاً شعراء كباراً. ويتعين قراءة المشهد الإبداعي في كل مرحلة برؤية بانورامية ترى كل تجليات الإبداع فيه، بكل أجناسه الأدبية: الشعر، القصة، الرواية، المسرحية.. الخ.
ليس هذا فقط ما يتعين قوله، فالمجايلون من الأدباء، حتى لو اختلفت أهواؤهم الأدبية والجنس الأدبي الذي برزوا فيه، يتأثرون، سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوا، بتجارب بعضهم بعضاً. وفي الأمم ذات التقاليد الثقافية والأدبية العريقة لا توجد قطيعة مطلقة بين جيل وآخر. ينطلق الجيل التالي من منجز الجيل السابق، أو حتى الأجيال السابقة، لا ليعيد إنتاجها وإنما ليضيف إليها، وهو يشكّل تجربته الخاصة المتميزة عمّا سبقه من تجارب، وللأسف، فإننا نجد تجليات لمثل هذه القطيعة، التي نريد وصفها بالبغيضة، بين الأجيال الأدبية في أماكن مختلفة من عالمنا العربي، حيث تُنكر أجيال جديدة منجز سابقيها، أو تترفع عليه، متجاهلة الظرف التاريخي الملموس الذي وضع فيه هذا المنجز، لكون الإبداع هو ابن زمنه وبيئته، وكلما تعمّقت هذه الصلة كلما أمكن لهذا الإبداع البقاء وعبور الزمن.
في معالجة الناقد الروسي بيلكين لهذا الموضوع، انطلاقاً من واقع التقاليد الأدبية في روسيا تاريخياً، لاحظ أن مبدعاً بحجم أنطون تشيخوف ما كان له أن يكون ما كانه لولا استيعابه منجز أسلافه من رموز الأدب الواقعي الروسي في القرن التاسع عشر، ومكتسباتهم العظيمة، قائلاً، أي بيلكين: «لا يمكننا فهم ظهر أدب تشيخوف من دون معرفة النثر العاطفي المقتضب لليرمنتوف، ولغة تورجينيف الرقيقة الحلوة، وفكاهة غوغول، وهجاء شدرين اللاذع، ومهارة تولستوي السيكولوجية العميقة». ومن هذا نستنتج سرّ نبوغ تشيخوف هو الذي أمسك بكل تلك الملكات واستوعبها وتمثّلها: اللغة الرقيقة، الفكاهة المبطّنة، الهجاء الساخر، المهارة السيكولوجية، فجسّد في مسرحياته، وفي قصصه خاصة، ما دعا إليه بوشكين في عام 1822 باعتماد «الدقة والاقتضاب، لكونهما أولى مميزات النثر الذي يحتاج إلى الأفكار، ومن دونهما لا تجدي العبارات البراقة شيئاً».
التعليقات