رفعت أمريكا الفيتو للمرّة الرابعة في وجه الإجماع الدولي المطالب بالوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي في غزّة والضفة الغربية، وبررت خروجها عن هذا الإجماع الدولي بـ«حرصها على عدم إفشال مفاوضات إطلاق سراح الرهائن» مع الدولة العبرية.

وأغفلت الولايات المتّحدة الأمريكية أنّ بموقفها في مجلس الأمن، هي تشرّع للقتل اليومي للفلسطينيين وهي بذلك تساند أولاً، أبشع عملية إبادة في حقّ شعب يسعى إلى البعض مما مكنته منه الشرعية الدولية على جورها في الحق التاريخي للفلسطينيين، وثانياً هي من حيث تدري أو من حيث لا تدري تعتبر أنّ أرواح آلاف الفلسطينيين لا قيمة لها أمام أهداف الحرب الإسرائيلية المعلنة وغير المعلنة.

وإذا كان الموقف الإسرائيلي من الدولة الفلسطينية غير جديد فهو يكاد يكون القاسم المشترك بين كل الحكومات الإسرائيلية منذ أحقاب، فإنّ حكومة نتانياهو الحالية هي الأكثر إصراراً على الموقف والأكثر تشبثاً بالأرض الفلسطينية على أساس طابعها «المقدّس» في الرواية الصهيونية المؤسسة لدولة إسرائيل.

وتسعى حكومة نتانياهو إلى الإيهام بأنّ هذا الموقف من الدولة الفلسطينية ليس موقف الحكومة فحسب، بل إن نتانياهو استصدر أيضاً قراراً من الكنيست الإسرائيلي برفض إعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد معتبراً أنّ السبيل الوحيد للاعتراف بدولة فلسطينية هو المفاوضات المباشرة بين الطرفين.

ووجدت حكومة إسرائيل نفسها، أمام زخم المواقف الدولية المساندة لحلّ الدولتين، مضطرّة إلى التعاطي مع هذا المعطى الجديد الذي قد يأخذ اتجاهات سياسية ودبلوماسية لا تراجع عنها، خصوصاً بعدما تسرّبت أخبار عن إمكانية اعتراف أربعة أعضاء دائمي العضوية في مجلس الأمن الدولي بالدولة الفلسطينية وأنّ أمريكا العضو الخامس ما انفكّت تعلن تمسّكها بحلّ الدولتين، وهو ما سيزيد في درجة الحرج الإسرائيلي وفي عزلة حكومة نتانياهو.

وبقطع النظر عن مدى جدّية مواقف هذه الأطراف الفاعلة في ملفّ الشرق الأوسط، فإنّ الأمر المؤكّد هو تزايد الاقتناع بأنّ حلّ الدولتين هو الأنسب لنزع فتيل الأزمة في المنطقة وكفّ العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة ورفع المعاناة الإنسانية عن الفلسطينيين.

ونعتقد أنّ حجم المعاناة الفلسطينية وصمود الشعب الفلسطيني هو الذي حرّك الضمير العالمي ولفت الانتباه إلى وجود مظلمة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، شعب يرزح تحت نير أبشع أشكال الاستعمار الاستيطاني منذ ما يزيد على 75 سنة أمام مرأى ومسمع رأي عام دولي حملته أزماته المتكرّرة بعيداً عن معاناة شعب عانى ويلات الحروب والتقتيل والتجويع والترحيل والتشريد، وصمد أمام هذه المآسي كما صمد أمام شتّى أنواع المؤامرات والدسائس في الداخل والخارج، وصمد في وجه التوظيفات المقيتة التي مورست بعناوين مختلفة، منها الحقّ الذي يراد منه باطل، ومنها الباطل أصلاً وفصلاً مع سبق الإصرار.

ويذهب بنا الاعتقاد أنّ المرحلة المقبلة هي مرحلة الفرز الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد التوظيف الداخلي والخارجي للقضية الفلسطينية وضد الفساد في حُكْمٍ أريد له أن يكون نقيضاً للمثال الديمقراطي، وضد من تاهت به الطرق فتاه عن قضايا شعبه، فاسحاً المجال بذلك لأطراف سياسية معادية في عمق تفكيرها وقناعتها للفكر الديمقراطي ولقواعد الحُكْمِ الشفافة.

إنّ المرحلة المقبلة حاسمة في تاريخ فلسطين، فإمّا أن يقرّر شعبها ما يراه صالحاً لتحصيل الحقوق التاريخية للفلسطينيين، أو أن يتواصل انفراد البعض بالقرار الذي تكون عموماً تبعاته وبالاً ودماراً على الشعب الفلسطيني الأعزل، والذي لا يطمح في غير العيش بأمن وسلام.

إنّ العدوان الإسرائيلي على غزّة والضفة الغربية هو آخر حلقات التسامح الفلسطيني تجاه الاحتلال وتجاه الداخل الفلسطيني، ولا يبدو أنّ الشعب الفلسطيني الذي بلغت أرقام ضحاياه مستويات عالية ومفجعة، والذي تعرّض لشتّى الانتهاكات والإهانات، والذي قطعت عنه سبل الحياة، سيقبل بالمزيد مما تعرض له، وإنّ شعباً صمد أمام هذه الويلات هو شعب لن يموت.