الأسبوع الماضي احتضنت الرياض مؤتمرا عالميا ضخما لتنمية القدرات البشرية، بعد أن احتضنت قبله مؤتمرا للمدن الذكية.

القاسم المشترك بين المؤتمرين بالنسبة لي أن توصياتهما لا يفهمها من هم خارج إطار هذين الحدثين المهمين.

وأقول مهمين لأن مستقبل المدن والعيش فيها هو أساس جذب المواهب وأفضل العقول، وهذا معناه المزيد من الرخاء الاقتصادي والحلول لخلق اقتصاد غير نفطي، وهذا هو صلب رؤية 2030.

لكن جعل المدن ذكية وتنمية القدرات البشرية ليسا بالأمرين اللذين أتوقع من مؤتمرين أن يقدما الحلول لهما. وتنمية القدرات البشرية أمر عميق جداً، يمكن لنظام تعليمي أن يساهم فيه ولكن ليس أن يحله تماماً.

وما فهمته من المؤتمر الأخير هو أن هناك توجها لإقامة الكثير من الأكاديميات لتنمية القدرات والمواهب، ومثال ذلك هو الأكاديمية التي أطلقتها «مجموعة البحر الأحمر الدولية» مع «المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني» لتدريب 10 آلاف شاب وشابة في مجال الضيافة والسياحة والفندقة في منطقة الوجه الواقعة قرب مشروع البحر الأحمر السياحي الضخم.

هذا النوع من الأكاديميات مهمته ليست خلق جيل يفهم أصول السياحة والضيافة والفندقة، بل إقناع الشباب والشابات بالعمل في هذا القطاع بما له من قيمة ومستقبل وظيفي، وتأهيلهم لاستقبال السياح من كل أنحاء العالم.

في الحقيقة وفي مناطق كثيرة في العالم، هناك قرى ومشاريع سياحية تدر ملايين الدولارات يومياً يديرها أشخاص لم يتلقوا تدريباً في مجال الضيافة. فأين هي المشكلة؟

المشكلة هي في الثقافة العامة نحو العمل في هذه القطاعات، وكذلك عوامل الجذب للعمل في قطاع السياحة والضيافة والفندقة.

عندما تكون من بيئة فقيرة وقرية سياحية في دولة تحترم ثقافة العمل وتنظمه، فإنك ستقبل بالعمل في الفندق وتقوم بخدمة الضيوف فيه، وستتدرج مع الوقت لكي ترتقي لتصبح مديرا أو مشرفا في المكان.

ولأن الإنسان هو الإنسان في كل مكان في العالم، فلا أحد يريد أن يظل في نفس مكانه طيلة عمره، ولا أحد سيهتم بالعمل في وظيفة لا يتوقع أنها تدر دخلاً عالياً في المستقبل، حتى وإن كانت وظيفة مكتبية أو إدارية. ولهذا نجد أن وظائف قطاع الضيافة في أماكن كثيرة موسمية أو يشغلها طلاب الجامعات لكسب دخل لحين التخرج، وأكاد أجزم أن لا أحد منهم يستمر في الوظيفة بعد الانتهاء منها.

وهذا تحد كبير لقطاع الضيافة، ولهذا تستثمر «مجموعة البحر الأحمر» في أبناء المنطقة لتدريبهم، ومن ثم تقدم لهم وظائف بأجر عالٍ لدعمهم للدخول في المجال. وهذا الأمر تفعله وزارة السياحة كذلك من خلال برامج ابتعاث لجامعات مرموقة في الخارج.

نحن لا ندرب مواهب هنا، بل نستثمر لإقناع جيل كامل من الشباب للدخول في مجال الضيافة والسياحة. وبعدها نضمن لهم وظائف بأجر عالٍ، وهو استثمار ينعكس على تكلفة التشغيل والعمل ويجعل الأجور في القطاع عالية وبالتالي تكاليف الإقامة عالية أيضاً.

هذا ليس تنمية طبيعية ولا «عضوية» للمواهب في هذا القطاع، ولكنه الحل الوحيد في بيئة كانت قبل سنوات ترى أن عمل الأبناء والبنات في هذه الوظائف أمر مهين. شخصياً ما زلت أعتقد أن استقدام العمالة المدربة من الخارج بأجور منخفضة هو السبيل، ولكن هناك الكثير من أصحاب الوطنية العالية يرفضون هذا الطرح ولكنهم أنفسهم يشتكون عندما يذهبون لمشروع مثل البحر الأحمر ويدفعون مبالغ عالية في الإعاشة والسكن.

عموماً هناك جانب آخر مهم في الحديث عن الموهبة وتنمية القدرات وهو كيفية جذبها وصقلها. في المؤتمر سمعت عن إطلاق أكاديمية من جهة حكومية، شخصياً لا أعتقد أنها مؤهلة لتدريب الأشخاص في مجال عملها. وفي حقيقة الأمر الأشخاص الذين يعملون في هذه الجهة أنفسهم يحتاجون لتدريب مكثف حتى يجيدوا العمل في هذه المهنة، ولا أريد ذكر الجهة ولا القطاع، حتى لا أبدو سلبياً.

هذا النوع من الأكاديميات هو صورة من صور العلاقات العامة.

بينما هناك أكاديميات ناجحة في مجالات فعلاً توفر مستقبلا للبلد والعاملين في مجالاتها، ومثال هذا معاهد البترول والتعدين، لأن خريجيها يعملون في قطاعات النفط والتعدين، التي هي في الأصل حتى وإن دفعت أجورا عالية فهذا لا ينعكس على المستهلك النهائي وتعمل في قطاعات تتيح فرصا حقيقية.

ما الذي يجعلني أتكلم بهذه الثقة حول الأكاديميات؟ لأن القدر شاء أن أكون جزءا في يوم ما من بناء إحداها، واطلعت على كل النماذج الموجودة في السوق محلياً وعالمياً.

التعليم المهني أمر مهم جداً، ولا يوجد تقدير له، وكأب كنت أشجع أبنائي عليه. ليس على كل المجتمع أن يبدأ في الجامعة وليست الجامعة هي الجهة التي من المفترض أن تعد القوة العاملة للمستقبل.

في ألمانيا التدريب المهني هو الأساس، وشركات مثل «مرسيدس بنز» قوتها العاملة تأتي من الأكاديميات، وفي بعض الدول الاسكندنافية خريجو التدريب المهني أجورهم أعلى من خريجي الجامعات. بينما في المملكة خريجو المعاهد التقنية ينظر لهم على أنهم أقل أهمية وبالتالي يحصلون على أجور أقل. والأهم من كل هذا هو أنهم لا يحصلون على ترقيات وفرص وظيفية لأنهم أنصاف متعلمين في نظر مسؤولي الموارد البشرية في الشركات والهيئات، وهؤلاء هم أنصاف المتعلمين الحقيقيين في نظري.

الموهبة والكفاءة تأتيان بالخبرة وليس بالصفوف الدراسية والشهادات العلمية، وجهل من يعمل في الموارد البشرية بهذا هو دليل على عدم تعليمه الحقيقي بنقاط القوة في البشر والاقتصاد.

الخلاصة هي أن التعليم المهني مهم جداً ولكنه تحد كبير، وحتى يكون مصدر تمكين حقيقي يحتاج لكل المجتمع والهيئات والجهات للبحث عن طريقة لمواجهته.