توقفت جميع المحاولات في التراث العربي والإسلامي لتطوير مفاهيم فلسفية يمكن أن نعتبرها "نظرية منهجية" لتحليل المكان في وقت مبكر. ولعلنا نستطيع أن نقول إن أغلب المهتمين بنظريات المكان لم يتجاوزا المفاهيم العامة التي وضعها ابن خلدون حول علم الاجتماع البشري، فحسب نذير معيزي: "يعتبر ابن خلدون أحد أبرز أعلام فلسفة التاريخ، فهو لم يساهم في إنشاء علم.. التاريخ فقط بل مارس النقد الفلسفي للمعرفة التاريخية (بالنسبة له) التاريخ لا يزيد على كونه خبراً عن الاجتماع الإنساني، وعليه فإنه لا يمكن تحديد قواعد المنهج في علم التاريخ إلا من خلال فهم طبيعة الظاهرة الاجتماعية"، على أن ابن خلدون لم يضع مفاهيم يمكن الاعتداد بها لتطوير منهجية واضحة لتحليل المكان رغم أنه لا يمكن فهم الاجتماع البشري دون فهم المكان الذي يحدث فيه هذا الاجتماع. تكمن الإشكالية قديماً وحديثاً في أن العقل العربي لا يستطيع تجاوز التراث والأفكار التي قدمها فهو يعتبرها بمثابة المسلمات التي تحظى بقداسة لذلك يظل ملتصقاً بهذه الأفكار ومسجوناً داخلها.
هذا لا يعني أن التراث العربي يخلو من الأفكار العميقة التي تمثل جدلاً معاصراً في الغرب، لكن هذه الأفكار لم تتطور بالمستوى الذي يخولها أن تكون هي مصدر الأفكار المعاصرة في نظريات المكان السائدة في الوقت الراهن. على سبيل المثال يرى ابن سينا في كتابيه "النجاة" و"عيون الحكمة" أن هناك علاقة بين الزمن والحركة وأن هذه العلاقة تتمظهر في المكان الذي هو "محل" يحتوي الأجسام. ويبدو أن هذا التصور الفلسفي يعكس العوامل الأساسية التي تشكل أي مدينة وهي المكان والزمن وما يمثله الزمن من حركة تتجه للمستقبل وتُحدث آثاراً واضحة على المكان. ولو حاولنا أن نرى المدينة والعمارة من خلال تصور ابن سينا عن المكان والزمن فسوف نجد أن هناك مستويات للمكان فـ"المحل" يقابل المكان المطلق (المدينة) والأجسام الذي يحتويها المحل هي العمارة. يمكن أن نتفق على أن هذا التصور المبدئي يحدد حدود العمارة والعمران لأنه يمكن رؤية المدينة ككل كجسم في فضاء (محل) أوسع.
هذا التصور في الأساس يعبر عن جدل فلسفي معاصر يفرّق بين "المكان" Place والفضاء Space وهو جدل قائم على تحديد تراتبية احتواء الأمكنة لبعضها البعض وما تحتويه هذه الأمكنة من أشياء بما في ذلك المباني. تتركز منهجية تراتبية احتوائية الأمكنة لبعضها البعض على تحدد الأمكنة التابعة وتلك المتبوعة، وبالتالي تحدد علاقة الأشكال ببعضها. هذه المفاهيم تحاول بناء العلاقات بين الأمكنة والأشكال المعمارية وغير المعمارية وفق هذا التصور لكنه لا يغفل ما حدده ابن خلدون من أهمية ربط العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما في ذلك التقنية بالقرارات العمرانية التي يتم اتخاذها أثناء صناعة الأمكنة.
على المستوى البصري المدرك الذي يشكل بداية التواصل بين الناس وما يحيط بهم من أشياء، يمكن أن نتفق على أن "العمارة هي التي تصنع المدينة"، فلا معنى للمكان دون وجود الأجسام التي يحتويها وتحدد هويته. أي أن العمارة في واقع الأمر تحدد هوية المدينة (المكان الحاوي للعمارة) فلا يمكن أن نفهم الظاهرة العمرانية لأي مدينة دون أن نفكك عمارتها وكيف أن عناصر تلك العمارة صنعت المشهد البصري لأمكنة المدينة. علاقة المكان بالعمارة، يمكن فهمها كذلك من خلال ما كتبه الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر" حول "الفضاء" و"المكان" فالعلاقة بين المكان المطلق (المحل) والمكان الخاص (الذي يتحدد نتيجة وجود الجسم الذي يحتويه المحل) تدور حول مفهومين أساسيين، الأول: الفضاء الذي يحتوي العمارة، وهو المكان المطلق الذي يحتوي المدينة نفسها، بينما الثاني: هو المكان الذي تحتويه العمارة، ونقصد هنا، الأمكنة التي تتشكل من العلاقات العمرانية للمباني، وغالباً ما تكون هذه الأمكنة هي الفضاءات المهمة في المدينة التي يتم فيها ممارسة الحياة.
من جهة أخرى، يثير "كريستيان نوربرج- شولز" في كتابه عبقرية المكان، قضية مهمة ترتبط بتأثير العمارة على شكل المدينة ويرى أن "المكان الوجودي" يتشكل من امتزاج خصائصه الطبيعية مع عناصره المعمارية وهو في نفس الوقت الذي يحدد مشاعرنا نحو المكان المشاهد. هذا الموقف "الظاهراتي" Phenomenological من عمران المدينة أثاره الناقد الإيطالي "ألدو روسي" في كتابه "عمارة المدينة" في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي وكأنه يقول إن المدينة المعاصرة على أهبة الاستعداد أن تتبنى أفكاراً جديدة ستغير من صورتها التاريخية والمعاصرة إلى حد كبير. مثل هذه الأفكار حول المكان ومفاهيمه تمثل سلسلة تطورية في الغرب لا نجد لها مثيلاً في الثقافة العربية، فنحن نقتطع الأفكار التي تطورت في تراثنا الفكري من سياقها التطوري الزمني لأننا نعرف أنه من الصعوبة بمكان خلق سلسلة مترابطة من الأفكار التي تطورت نتيجة لمفاهيم سبقتها.
من المؤسف أنه لا يوجد تراكم تاريخي للأفكار والمناهج الفكرية التي تطورت في التراث العربي فقد وقفت جميع المحاولات عند زمنها ولم تتطور بما يكفي كي تساهم في بناء النظريات المعاصرة في مجال العمران. ورغم أننا نحتفي بالتراث إلى درجة التقديس إلا أننا، حتى الآن، لم نستطع أن ننقل هذا التراث إلى مسار تطوري يقنعنا بأنه قادر على المساهمة في صناعة المستقبل.
التعليقات