يقول الأديب الراحل جمال الغيطاني إن أحد من يثق بهم نقل له أن شيخاً فاضلاً عاش منذ أعوام طويلة، كان ينزل إلى حديقة بيته، فيخاطب الأشجار واحدة بعد الأخرى، وقد يتوقف عند إحداها ويسأل: «مالك حزينة ليه؟»، أو: «إيه اللي جرى لك النهار ده؟». معقباً على ذلك، قال الغيطاني: «من يدري. ربما ثمّة حوار لا يدريه إلا أهل الكشف، ربما كان للأشجار صريخ عند الاحتضار، لكننا لم نصغ إليه». استعاد الغيطاني هذه الحكاية في زيارة له إلى مدينة البصرة بالعراق في العام 1986، فأحزنه ما آلت إليه نخيلها من موات، حين فوجئ بقصّ مئات الآلاف من أشجار النخيل لغايات عسكرية فترات الحروب التي كانت البصرة جبهة أمامية فيها. وفي الطريق من البصرة إلى مدينة الفاو، رأى الغيطاني بقايا تلك النخيل الذاوية، وتساءل في نفسه: «كم من السنوات يحتاج هذا النخيل ليستردّ خضرته، فالأشجار تتشبث بالحياة كما الإنسان».

يذكّرنا القول بتشبث الأشجار بالحياة، بمقالٍ لمواطن الغيطاني، الأديب يوسف إدريس، عنوانه: «حتى الأشجار تقاتل»، كتبه من وحي زيارة قام بها إلى روسيا في بدايات الخريف، حيث بدأت أوراق الأشجار الكثيفة الخضراء تشحب، وفي اليوم التالي بدأت تصفر ثم تصفر، ثم أخذت تتساقط، وبدأت الأرض التي كانت عارية إلا من أعشابها تستقبل الورق الساقط، كأن الأشجار تحضر نفسها لموسم الشتاء والثلوج الوشيك، وهي تعرف أنها معركة حياة أو موت، فتنكمش روح الحياة فيها إلى أقصى قدر، ليفكر إدريس حينها كيف تتغلب هذه الجذوع الذاوية العارية على قسوة البرد والثلج، لتعود إليها أوراقها الخضراء النضرة ثانية؟

حلم الغيطاني وهو يتجوّل في أرجاء البصرة ومعالهما أن تلهمه يوماً بكتابة رواية عنها. أتراه لحظتها حلم أيضاً بحياةٍ جديدة لنخيلها التي ذوت وقُصّت جذوعها، كتلك الحياة العائدة إلى أشجار موسكو التي عرّاها الشتاء القارس من أشجارها، وجعل جذوعها تذوي، فما لبثت أن بدت كأنها ولدت من جديد؟ والسؤال الأهم: هل تحقق حلم الغيطاني وعادت نخيل البصرة إلى سالف مجدها؟ أهل البصرة أدرى بشعابها، ولديهم العلم اليقين.

استغرقنا الحديث عن الأشجار، ونخيل البصرة بالذات، فيما للبصرة عوالم أخرى أعادت إلى ذاكرة الغيطاني أسماء مؤسسها عتبة بن غزوان، وأبي موسى الأشعري باني أول مساجدها، والإمام علي بن أبي طالب الذي وطأت قدماه أرضها ومشى فوقها، وإخوان الصفا، وصاحب المقامات الحريري، ورابعة العدوية، والحسن البصري، وعلي بن محمد قائد ثورة الزنج التي أقضّت مضاجع الدولة العباسية يومها، وخصّها طه حسين بدراسة، ومثله فعل الباحث اللبناني أحمد علبي.