قام رجال أعمال بخدمة الثّقافة والبحث والأدب، دون قصد الرّبح، فلو نسأل: ما الأرباح التي ابتغاها سُلطان العويس (ت: 2000) من «جائزة العويس»، التي تمنح منذ (1990)، لأدباء وشعراء ومؤلفين، ما هي أرباح عبد العزيز البابطين (ت: 2023) مِن جائزة الشّعر، التي تمنح منذ (1989)؟
أعود إلى التّاريخ، ما مصلحة مسلمة بن عبد الملك (ت: 121هجرية)، في الزَّمن الغابر، مما فعله: «أوصى... بثلث ماله لطُلاب الأدب، فقال إنَّها صناعة مجفُوٌ أهلها» (الأزرقيّ، أخبار مكة).
كذلك، ماذا جني الوزير عليّ بن الفرات (قُتل: 312 هجرية) مِن إطلاق حصة من ماله لأهل الأدب، وبعد الاستغراب قال: «لعلَّ أحدهم يبخل على نفسه بدانق (سُدس الدّرهم) فضة، ويصرفه في ثمن ورق وحِبر، وأنا أولى مَن أعاونهم على أمرهم(ابن النَّجار، ذيل تاريخ بغداد). نُكبَ ابن الفرات ثلاث مرات، وقُتل ولم يفزع له أديبٌ. فكان الجميع على قول أبي الحسن الأنباريّ(ت: 390 هجرية): «ولكني أُصبر عنك نفسي/ مخافة أنْ أعدَّ مِن الجناةِ« (ابن خِلّكان، وفيات الأعيان).
نشأت مؤسسات رصينة، مِن قِبل حكومات وشخصيات، ليس لها غير تقدم شعوبها بدعم الثّقافة وإحياء الأدب، الذي قال مسلمة، عن غير المزيفين المحسوبين: «صناعة مجفوٌ أهلها»، لأنها غير التّجارة. أقول هذا، ولا يهمني مَن أمثال مَن أخذ الجوائز، ونال التقدير، و(ثوريته) أبت إلا الإساءة لهم.
ذلك مستهل للحديث عن الأديب محمّد الشَّارخ (1942- 2024)، في وقت لم نسمع به، في العديد مِن البلدان، بجهاز الكمبيوتر، أقام مؤسسته «صخر للمبرمجيات» (1982). أقصد البلدان المتخمة بالنِّعمة والغاصة بالنّقمة. سعى إلى مغامرة جعل الجهاز العجيب طوعاً للحرف العربيّ، وكان القلق غالباً، فأنتج كمبيوتر «صخر».
كانت، خلال الإنجاز، المنافسة حادةً، فالشّركة المنتجة للكمبيوتر أوقفت التّعاون(1990)، يقابلة عدم ثقة الحكومات ولا الشّركات العربية بمغامرته، ولما أدخل نص القرآن والحديث، ذهب لإقناع رجال الدّين بمشروعه، درءاً لفتوى قد يواجهها، في زمن صوت الصّحوة الدّينيَّة كان صاخباً مهيمناً، لأنه يعرف العوائق التي حصلت أمام طباعة(1530)، وترجمة (1743) النّص القرآني، فكيف إدخاله في الكمبيوتر؟
قبل سنوات كتب لي الباحث ناصر الحُزيمي: «إنَّ أرشيفاً عظيماً، للمجلات العربيَّة، متاحٌ على الإنترنت». هذا ما كتبتُ عنه، بعد الاستفادة منه: «مجلات العقود الخوالي متاح للباحثين»(مجلة المجلة 2016).
تذكرتُ أنَّ الشّارخَ سألني، قبل سنوات، مِن هذا التّاريخ، عن مجلة «لغة العرب»(1911-1931)، وأن أذهب معه إلى مكتبة «سواس» ليسجل عناوين المجلات العربيّة، واستعار مني «لغة العرب» لعدم العثور على مجلداتها التسعة، فترددتُ في إعارتها، لأنه سيبعثها إلى مصر، وأقنعني بالقول: «ستكون مجلات القرن التاسع عشر إلى اليوم متاحة لكم» نسيتُ الموضوع، حتّى رأيت المشروعَ في عالم الإنترنت منجزاً.
تكتبُ عنوان المقال، أو اسم الكاتب، يظهر أمامك طبق الأصل، والمجلة كاملةً. كنتُ قبل وجود الأرشيف أهدر الوقت بمراجعة المكتبات والمراسلات، كي أحصل على مقالة كتبها جواد علي العام(1939)، أو ما كتبه انستاس الكرملي العام (1911)، أو رأي لإبراهيم العريَض 1942، وغيرها مِن النّوادر.
يتضمن أرشيف الشَّارخ مليوني صفحة، أكثر من ثلاثمئة وعشرين ألف مقال أو بحث، كتبها أكثر مِن اثنين وخمسين ألف ومائتي كاتب. لا يُقدر هذه الثروة، إلا مَن جحظت عينه بحثاً، وضاعت أوقاته تفتيشاً عن معلومة، فأباحها له الأرشيف، وما صارت هذه الثّروة الثّقافيّة الهائلة، في متناول الطّالبين، إلا بما بدأه الشّارخ بتعريب الكمبيوتر.
أقول: إنْ لم يفعل هذا الرّجل، مُحب الأدب والموسيقى والفنون، غير ما تقدم لكفاه، أحسبها، بلا مراء ولا مبالغة، ثورةً ليست كبقية الثّورات، التي لو عاش، بظل انتصاراتها، الشّارخ، لقاده شغفه بالمعرفة والتَّقدم إلى السُّجن، لا التَّكريم.
التعليقات