أسّس دهاة السياسة (عصبة الأمم) بعد الحرب العالمية الأولى بأربعة أعوام؛ لحل الأزمات، وقطع النزاعات بطرق سلمية متحضرة، على أساس من احترام القانون، وتعهد الجميع بالخضوع لحكمها، وتعطل عملها 6 أعوام بسبب الحرب العالمية الثانية، ثم في مؤتمر طهران عام 1943، اقترحوا منظمة أكثر فاعلية، فكانت (الأمم المتحدة)، وفي عام 1946 تم اختيار نيويورك مقراً دائماً للأمم المتحدة بديلاً لجنيف.

وتعهد نظامها الأساسي بإنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية (مرتين) أحزاناً يعجز عنها الوصف، وأكد النظام على الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد، وبما للرجال والنساء، والأمم كبيرها وصغيرها؛ من حقوق متساوية، وتحقيق العدالة، واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات، من مصادر القانون الدولي، وأن تدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن ترفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح.

فرح العالم بتوجّه الأمم المتحدة لإقامة العدل، ونصرة المظلوم، والتصدي للظالم، ورد البغي والعدوان، ولعلها انشغلت بالظلم، وغضّت الطرف عن العدوان، وتشاغلت بحقوق الإنسان، وأغفلت موضوع الظلم، والأمور نسبيّة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، فالحكم حينها (الفيتو) حق النقض، الذي يُطلق عليه أحد القرويين (الفيمتو).

ولأن ثعالب الساسة معنيون بإثارة الإشكالات وتهدئتها، وإشعال فتيل الأزمات وإخمادها، وتحقيق مصالح فئة وجهة على حساب أخرى، ومداهنة طرف بالضرب عرض الحائط بحقوق طرف، فالتصوّر الذهني مع الوقت تغيّر لتصبح المنظمة الدولية (صدى) للصوت الأقوى، لكنها ظلّت معنيّة بامتحان وفتنة الدوّل، وتختار دوماً (أميناً) هادئاً لامتصاص غضب الشعوب، بالقلق والتنديد والتهديد والتشديد والإدانة سوى لإسرائيل.

وبما أن بعض المشاريع لها عدوى، وكما جرت العادة في التقليد والمحاكاة، فإن شياطين المجتمعات، بحكم الغيرة، استحبوا تقليد الأمم المتحدة فأسّسوا «أمم مُمْتَحِنَة» بصورة عفوية، لرصد الناس، واشتغالهم، دون حاجة لمجلس أمن، ولا محكمة عدل، ولا منظمة عمل، ولا (يونيفيل).

نشاط فردي يومي قصده وغايته (مصلحتك) بتعقبك باهتمام، واستفزاز انفعالاتك بالترقب والتساؤلات، ومهما بلغت سلبية الأمم المُتحدة التي هي أحياناً بالغة الضرر، ومهما اشتكت من ضررها دُول وأمم، وملايين الأوادم، فإنه لن يصل لمستوى الضرر الذي تلحقه الأمم المُمتحِنة بالغلابة.

يمكن مساءلة ومحاكمة الأمم المتحدة، ولا يمكن محاكمة الأمم المُمتحِنة، فتلك حسابها على الدول العُليا، وهذه حسابها على القدير الأعلى، وتلك تفرض على الدوّل حظراً، وهؤلاء يتسللون إلى خصوصيتك جبراً، وموظفو الأمم المتحدة رسميون وملتزمون بدوام، فيما أعضاء الأمم المُمتحِنة متفرغون، بل لديهم قدرة على التفرغ، والفضاوة، وبعضهم يردد (أفضى لك ولو كان عندي عشرين شغلة).

للأمم المُمتحِنة نشاط ليلي وآخر نهاري، وفريق رجالي، وآخر نسائي، ولهم معاونون ومساعدون ينبشون تاريخك، ويفتشون أرشيفك، لالتقاط ما يمكن إدانتك به، أو الإساءة لسمعتك، أو سلبك نعمة، أو حرمانك من حق، وشيطنتك ولو كنت ملائكة، وهم دوماً حولك، وحواليك إما بأعيانهم، وإما بأعوانهم.

الأمم المُمتحِنة ليست في نيويورك ولا بروكسل، ولا لاهاي، ولا جنيف بل معك وقريبة منك حد شعورك، إنه لم يتبقَ عليها إلا أنها تتشمشم ملابسك، وتلحس زفرة كفك، وتفتش واتساب جوالك، وتقرأ ملامحك، وتحلل بؤبؤ عينيك، ظناً منهم أنك مُتيّم ومُغرم (والصبُّ تفضحه عيونه) والمتنبي كان مفضوحاً، ومكشوف النوايا عند سيف الدولة، وعند كافور، علماً بأنه لم يكن (نسونجي)، لذا اكتشف ذلك وحمّل عينيه مسؤولية فضحه (وإذا خامر الهوى قلبُ صبِّ، فعليه من كل عين دليل) وغرامه ليس بالأعين الدعج، وإنما بالجاه، الذي يرفع مقامه الواطئ شعبياً لمستوى مقامه الثقافي والأدبي، أليس هو من قال (أريد من زمني ذا أن يبلغني، ما ليس يبلغه من نفسه الزمن).

للأمم المُمتحِنة أساليب، فهي تفاجئك بسؤال، وإن أبيت تجاوب (تحفظاً وحصافة) تروي لك حكاية لتدغدغ مشاعرك، وتقع برجلك في فخ كشف الأوراق، وكم يسعدها أن تصيد عليك ملاحظة أو مأخذا، فتتوسع في نقلها، بعد تبهيرها و تنكيهها بما يلزم من بهارات ونكهات امتحان الخلق.

بعضهم يركز على نقاط الضعف، يبدأ من نقد، كرشك لأنه زاد، ولأن عنده (دكان رقية) يقسم لك أنها (عين) أو سحر أسود، تسأله ليش الجن والسحرة ينفخون بطني؟ فيجيب: لتصبح عاجزاً جنسياً! فتقول: طيب ولو استمريت فحلاً ما هي الإنجازات المنتظرة التي لم يحققها أحد قبلي، والعبد الفقير لله سيحققها؟ فيمد لك ببطاقة فيها رقم جواله ومواعيد الرقية، وأسعار الزيت والماء الممصوق فيهما!.

وبعضهم يفتح معك الموضوع بملاحظات على متغيرات الشكل، ما أسرع الشيب جاك؟ كم عمرك؟ والله ما أنت كبير، تصدّق إنك تشبه أمك، وأختك تشبه أبوك، وفي داخلك تقول (لا تخليني أخرج عن طوري وأنعل لك) أستغفر الله العظيم، اللهم إني صائم.

وفي شهر رمضان يدخلون لفمك، ويتفقدون براطمك، شكلك شارب توت، وإلا سوبيا معتّقة، شفايفك حُمر! وليش أسنانك مصفّرة!؛ أسنانك طبيعية وإلا تركيب، بانصحك بعيادة للتبييض، فتقول له ما أبغى أبيّض!؛ فينتقل لنوع الصبغة اللي صبغت بها لحيتك، ويصعد لفوق، غريبة صلّعت مع أن أبوك ما كان أصلع؛ فتنظر للسماء يا لطيف لطفك يارب.

والحسود منهم ينطلق من ضعافة وشفقة عليك تقاعدت وإلا باقي؟ كم راتب تقاعدك؟ وكم أعطوك حقوق؟ ليش كم خدمتك؟ ضموا لك التأمينات مع التقاعد؟ كأن وزنك نزل (حمية وإلا ضربك السكّر؟) سيارتك حلوة، كاش وإلا تقسيط؟ صيني وإلا ياباني؟ عساك اكتتبت في شركة (...) أرباحها وقت طرحها بتكون مضاعفة دبل، عساك زوجت ولدك؟ يقولون بنتك تطلقت؟.

وبعضهم استثماري شهواني، أكيد معك أرض، خذ لك قرض واعمرها، العمار مع الوقت يغلى، سوها دوبلكس، سكن وإيجار، وخلّ الملحق فاضي، كمّن تلقى لك زوجة مسيار، ثم يلاحقك النشاط الأممي إلى غرفة نومك، وإلى سرير الزوجية؛ متى تنام؟ على جنبك وإلا على بطنك؟ تشخّر؟.

بالطبع من الفرق المُمتحنِة نمام، فيرمي لك البياض، ليعرف مويتك، وينقل عنك ما قلته ويفسره، وبعضهم مغتاب، يبني على كلامك وتصرفاتك تصورات، ثم تصبح اتهامات، وانتهاكات لعرضك.

يعين الله الصائمين، في نهارهم تطاردهم قوافل الأمم المُمتحِنة، وفي الليل تلاحقهم القنوات بأخبار الأمم المتحدة.

الله يتوب على الأمم المُمتحِنة، وعلى كاتب هذه السطور، كوني اغتبتُ الناس في نهار رمضان، فاستغفرتُ وتبرأتُ، ودعوت الله أن يبصّرني بعيوب نفسي، ويعينني على معالجتها، ويعافيني مما ابتلى به غيري، وتذكرتُ قول الحق تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). صدق الله العظيم.