تزايد اهتمام الباحثين والمفكرين والفلاسفة بالقضايا الدولية، مع ظهور الدولة الحديثة وتطور علاقاتها، حيث غلب الطابع الفلسفي على مجمل الإسهامات التي برزت في بداية الأمر ضمن دراسات كانت تتسم بالعمومية.
وقد مرّت العلاقات الدولية كحقل للمعرفة والبحث بمرحلتين، الأولى، يطلق عليها ما قبل العلمية، طغت عليها المقاربات الدينية والأخلاقية والفلسفية، إضافة إلى بعض الكتابات السياسية والقانونية التي سعى من خلالها أصحابها مثل«ميكيافيلي» إلى توجيه النصح للحكام؛ بصدد تدبير الحكم، قبل أن تبرز بعض الكتابات شبه العلمية في أواخر القرن التاسع عشر لكل من«ماركس» و«إنجلز»، والتي ركّزت على بعض القضايا العسكرية والسياسية والاقتصادية.
أما المرحلة الثانية فهي المرحلة العلمية التي ظهرت مع بداية القرن العشرين، مع بروز كتابات وإسهامات أكثر تخصصاً وعمقاً في هذا المجال، وتزامن ذلك مع إحداث معاهد ومؤسسات تعنى بهذه القضايا، وقد تميزت هذه الإسهامات إجمالاً بتوظيف مناهج كانت متبعة في عدد من العلوم الاجتماعية.
وهكذا تباينت المقاربات التي تناولت العلاقات الدولية كحقل معرفي، تبعاً لتعدد المدارس والاتجاهات الواردة في هذا الصدد. فقد برزت الإرهاصات الجدّية الأولى لبناء علم العلاقات الدولية في الربع الأول من القرن العشرين، وكانت تهدف الدراسات التي ظهرت في هذا الخصوص إلى تحديد وفهم سلوك الفاعلين الدوليين، واستخلاص النتائج، وتفسير الظواهر الدولية والتنبؤ بمآلاتها، قبل استخلاص النتائج.
وقد تمخض عن هذه الجهود وضع مجموعة من النظريات والمقولات التي حاولت في مجملها إرساء علم مستقل للعلاقات الدولية، ينصبّ على تناول الظواهر والتفاعلات الدولية المتصلة بقضايا الحروب والصراعات ومظاهر التعاون في مختلف المجالات وسبل تسوية المنازعات الدولية.
تنطوي دراسة العلاقات الدولية في أبعادها التفاعلية والنظرية على قدر كبير من الأهمية، وهي تشمل مواضيع ومحاور عدّة، من قبيل السياسات الخارجية للدول في جوانبها التعاونية والصراعية، ونشاطات مختلف الفاعلين الدوليين الآخرين، والإشكالات التي تطرحها السلوكات الدولية، كما يهتم هذا الحقل المعرفي أيضاً بالكشف عن الحقائق المتعلقة بمختلف القضايا الدولية في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والاستراتيجية، كسبيل للتقصي وتفسير الأحداث والوقائع.
وقد زاد من أهمية وجدوى الدراسات الواردة في هذا الخصوص، ذلك التطوّر المذهل الذي شهدته العلاقات الدولية من حيث تشابكها وتنوع مجالاتها وقضاياها؛ وبروز أطراف جديدة فيها إلى جانب الدول؛ كما هو الشأن بالنسبة للمنظمات..
وأسهمت التحوّلات التي شهدتها الساحة الدولية منذ الخمسينات من القرن الماضي في تعزيز «النظرية في العلاقات الدولية»، بفعل تعدّد المدارس، وتنامي الانفتاح على عدد من العلوم الاجتماعية، والاستفادة من مختلف المناهج المعتمدة في هذه العلوم، علاوة على تطور التكنولوجيا وتشابك العلاقات الدولية على عدة مستويات.
كما شهد علم العلاقات الدولية تطوراً كبيراً خلال العقود الأخيرة، بفعل ظهور العديد من المراكز الاستراتيجية بعدد من البلدان المتقدمة كالولايات المتحدة، وتطور النظريات المتعلقة بهذا الخصوص، علاوة على استثمار التكنولوجيا الحديثة ضمن المقاربات والمناهج المعتمدة، وحدوث تراكم معرفي مهم لعدد من الباحثين والمهتمين في القضايا الدولية، بالإضافة إلى تزايد التهديدات والمخاطر والمنازعات، وكذلك تنامي البعد الاقتصادي في العلاقات الدولية، وتشابك العلاقات بين الدول عبر عدد من المصالح والمعاملات.
ترتبط الدراسات الدولية في جزء كبير منها بالمستقبل، حيث يتحكم فيها هاجس التنبؤ والتطلع إلى تطور الأحداث بناء على مؤشرات دقيقة ومناهج علمية متطورة كأسلوب «السيناريو» أو أسلوب «دلفي» أو من خلال آلية العصف الذهني..
حقيقة أن الإنسان انشغل منذ القدم بالمستقبل كتعبير عن الفضول، والخوف من المجهول، كما حاول الكثير من الفلاسفة والمفكرين والعلماء عبر التاريخ الربط بين الماضي، والحاضر، والمستقبل، لكن الأمر تطور بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، بفعل تزايد الاهتمام العلمي والسياسي بالدراسات الاستشرافية تحت ضغط الإشكالات والمخاطر والهواجس التي أصبح يعيشها العالم، وبعدما أصبحت هذه الدراسات تمثّل حقلاً معرفياً قائماً بذاته، مع ظهور عدد من المراكز العلمية والمؤسسات التي تُعنى بالموضوع، ومع إدراج هذا الحقل العلمي المهم ضمن برامج واهتمامات الجامعات، وتوجُّه صانعي القرار السياسي في عدد من البلدان المتقدمة إلى الاستئناس بمخرجات هذه الهيئات في سياق الرغبة في اقتحام المستقبل بقدر من الجاهزية، والسعي إلى عقلنة القرارات والسياسات العمومية، ومحاولة التحكّم في الأحداث والأزمات.
تزايدت أهمية الدراسات الاستشرافية في حقل العلاقات الدولية بشكل ملحوظ في ظل التطورات المتسارعة في عالم متغير ومبهم التوجهات، ومع تنامي التحديات التي تلقي بظلالها على الإنسانية جمعاء، ورغبة في تلافي الحروب المدمرة، ورصد المخاطر والمشكلات التي تتهدد الأجيال المقبلة من نمو ديمغرافي وتدهور للبيئة، وكذا الرغبة في رسم سياسات ناجعة، كفيلة بتحقيق تنمية وترسيخ سلام مستدامين.
لا يخلو الاستشراف في حقل العلاقات الدولية من صعوبات وتعقيدات، متصلة في مجملها بتشابك هذه العلاقات إثر الثورة التكنولوجية والاتصالية، وتطورها المذهل أيضاً على مستوى القضايا والأولويات، بالإضافة إلى صعوبات أخرى منهجية وثقافية ومالية وسياسية تزيد من انفلات الظاهرة كلما تم الاقتراب منها.
التعليقات