مع احتدام الحملة الانتخابية لانتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي المقبل، يتضح يوماً بعد آخر أن الاتحاد، الذي يضم 27 دولة ديمقراطية تشكل معاً أكبر كتلة اقتصادية في العالم، ليس على ما يرام. بالتأكيد لا يعيش الاتحاد الأوروبي على أجهزة دعم الحياة، كما يحلو لعدوه اللدود فلاديمير بوتين أن يزعم. ومع ذلك، فإن هذا لا ينفي أن الاتحاد ليس بالقوة المهيمنة التي يتظاهر بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. موجز القول أن الاتحاد الأوروبي يكابد أزمة عميقة، ربما تهدد بقاءه.
وإذا تحدثنا بمصطلحات طبية، فإنه يمكننا القول إن منظومة ما تمر بأزمة عندما تعاين ثلاث «حالات»: تتمثل الأولى في الفقدان المتنامي لثقة الجمهور في المنظومة ككل. وقد تجلى ذلك مراراً وتكراراً في جميع الدول الأعضاء تقريباً عبر التراجع المستمر في نسبة إقبال الناخبين على المشاركة بالانتخابات المحلية والإقليمية والوطنية. وخلص العديد من الدراسات الاستقصائية إلى أن متوسط إقبال الناخبين على مدار الانتخابات العشرين الماضية داخل إطار الاتحاد الأوروبي جاء أعلى قليلاً من 50 في المائة ـ رقم محبط داخل قارة. على النقيض، نجد أن الذهاب إلى صناديق الاقتراع لطالما تمتع بشعبية داخل الولايات المتحدة.
وتوحي استطلاعات الرأي الحالية بأن أقل عن 40 في المائة من الناخبين قد يدلون بأصواتهم في انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة في يونيو (حزيران) المقبل. الأسوأ من ذلك، أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن انتخابات يونيو قد تشهد اكتساحاً لأحزاب اليمين المتطرف واليسار المتطرف، بخاصة في فرنسا وألمانيا؛ ما يعد بمثابة إشارة مؤكدة على تراجع الثقة في المنظومة التي صاغها ائتلاف من تكتلات تنتمي إلى تيارات وسطية وديمقراطية اجتماعية والصوابية السياسية التي تركز على الاهتمامات البيئية ومجموعة من القضايا المتخصصة المبنية على حالات حقيقية أو متخيلة من الظلم والغبن.
داخل فرنسا، من المتوقع أن يحصد حزب التجمع الوطني، بزعامة ماري لوبان، 32 في المائة من الأصوات، أي أكثر عن ضعف الأصوات المتوقعة لصالح قائمة الرئيس ماكرون. وللمرة الأولى، قد يقترب ائتلاف من أحزاب اليمين واليمين المتطرف من السيطرة على البرلمان الأوروبي، الذي يجابه تحديات بالفعل، وتصبح لهذا الائتلاف الكلمة الأخيرة في المؤسسات الرئيسية الأخرى التابعة للاتحاد. وجدير بالذكر أن انخفاض نسبة مشاركة الناخبين بالانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية الأسبوع الماضي في سلوفاكيا، أفرز فوز فصائل مناهضة للاتحاد الأوروبي وداعمة لبوتين.
أما «الحالة» الثانية، فهي حالة الركود التي تعيشها الاقتصادات الأوروبية. ونجد اليوم أنه حتى ألمانيا، التي لطالما شكّلت العنصر العبقري داخل الاتحاد الأوروبي لأجيال عديدة، ربما تتعرض لضربة من النمو السلبي. من جهتهم، حاول العديد من أعضاء الاتحاد الأوروبي تحاشي هذا المصير عبر إنفاق الأموال وكأنه ليس هناك غد. واليوم، ولّت الأيام التي كان ينظر فيها إلى عجز الميزانية المتجاوز 3 في المائة باعتباره كبيرة من الكبائر، وإلى تخفيض الائتمان من جانب وكالة «موديز» باعتباره عقاباً مشيناً.
وحملت «الحالة» الثانية تداعيات أخرى غير مقصودة. والآن، يتنافس أعضاء الاتحاد الأوروبي في ما بينهم على أسواق ومصادر جديدة للاستثمار في أميركا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط، وآسيا. وأدى ذلك بدوره إلى اتباع توجهات متنوعة، وشديدة التنافسية بعض الأحيان، تجاه العلاقات مع «القوى الناشئة»، وعلى رأسها الصين والهند والبرازيل.
وفي خضم سعيهم المحموم لتحقيق نمو اقتصادي يجنبهم شبح البطالة الواسعة النطاق الذي يلوح في الأفق، شرع الكثير من أعضاء الاتحاد الأوروبي في التراجع عن بعض التدابير التي كانت موضع إشادة ذات يوم، باعتبارها إنجازات عظيمة أثمرتها آيديولوجية العولمة، التي اعتاد دافوس أن يشكل حرمها الداخلي. وشهدت الجلسة الأخيرة للمنتدى العالمي التعبير عن بعض هذه المخاوف، وإن كان بنبرة مكتومة.
وأخيراً، «الحالة» الثالثة، وربما الأهم بكثير، فتتمثل في نزع قدسية السلطة السياسية على نحو غير مسبوق، وانحسار حاد في هيبة أولئك الذين يشغلون المناصب العليا في الدولة.
في فرنسا، تجري الإشارة، في الغالب، إلى الرئيس ماكرون باسم «ماكرون» فقط أو ببساطة «إيمانويل ماكرون». وفي مناظرة إذاعية أجرتها الدولة حديثاً، واجه أحد «الخبراء» المشاركين صعوبة في تذكر اسم وزير الخارجية الجديد، رجل نبيل يدعى ستيفان سيجورن، وسبق له العمل مستشاراً رئاسياً لسنوات. وعبر تجاذب أطراف الحديث مع الباريسيين في المقاهي، سرعان ما سيتضح أن القليل منهم يعرف أسماء أكثر عن ثلاثة أو أربعة وزراء في الحكومة - أو حتى يأبهون لمعرفة أسماء الوزراء من الأساس.
وكان من شأن التعامل مع الشأن السياسي بازدراء، أن انخفضت أعداد المنضمين إلى الأحزاب السياسية و/أو النقابات العمالية بمعدل قياسي. في الواقع، كان السياسي البريطاني المخضرم بنجامين دزرائيلي، الذي لطالما آمن بأن الأحزاب السياسية تلعب دوراً حيوياً كوسيط بين الدولة والمجتمع ككل، ليتملكه الفزع إزاء المشهد السياسي الراهن. (يذكر أن عضوية حزب المحافظين الذي كان يتزعمه، انكمشت إلى نحو 60.000 عضو في بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي).
وبالتزامن مع ذلك، تحل محل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية المتلاشية مئات، وربما آلاف، من الدوائر، وجماعات الضغط، والجماعات ذات القضية الواحدة، وأفراد غريبي الأطوار، والذين أصبحوا مرئيين بدرجة أكبر بفضل الفضاء الإلكتروني. أما التأثير التراكمي لهذا الوضع، فيتمثل في المزيد من نزع قدسية الدولة، ذلك «الوحش البارد» المصمم لمنع اشتعال فوضى «الجميع ضد الجميع».
من ناحية أخرى، يتحمل زعماء الاتحاد الأوروبي، على المستويين البرلماني والتنفيذي، نصيباً كبيراً من المسؤولية عن الصورة الرديئة الراهنة لمؤسسة كانت ذات يوم تردد أصداء المثالية الأوروبية عبر رسائل مثل السلام والأخوة والحكومة النظيفة والنمو الاقتصادي والتقاسم العادل لثماره.
وأثار عدد من الأفكار الغريبة، مثل نشر قوات أوروبية على الأرض في الحرب الحالية الدائرة في أوكرانيا من جهة، والسعي لاسترضاء بوتين من جهة أخرى، الانقسامات داخل الاتحاد. وحدث المثل في وقت سابق عندما جرى إطلاق بالونات اختبار حول إنشاء جيش أوروبي ليحل محل حلف «الناتو»، أو تشكيل احتكار لشراء الأسلحة لصالح جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وإذا كانت الحرب في أوكرانيا كشفت عن انقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، فإن الحرب في غزة كشفت عن انقسامات أعمق مع اتخاذ بعض كبار المسؤولين، بخاصة جوزيب بوريل، المتحدث باسم العلاقات الخارجية للاتحاد، موقفاً راديكالياً مناهضاً لإسرائيل، على النقيض من المواقف الأكثر تأييداً لها من جانب ألمانيا وهولندا، وفي سياق مختلف، المجر وسلوفاكيا.
ولن يكون من قبيل المبالغة القول بأن الاتحاد الأوروبي يفتقر في الوقت الحالي إلى سياسة خارجية واضحة المعالم. الحقيقة أن الدول الأعضاء تسعى اليوم إلى تحقيق أهداف مختلفة، وتتضارب مصالحها بعض الأحيان تجاه الصين، وروسيا، والولايات المتحدة، والشرق الأوسط، وأفريقيا على نحو متزايد.
وبدلاً من التحرك نحو بناء دولة أوروبية عظمى أو تكتل فيدرالي، يبدو أن مسار الاتحاد الأوروبي الحالي يعود من جديد إلى نموذج الدولة القومية. وستكشف الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقبلة ما إذا كان هذا التوجه سيستمر.
التعليقات