سأكرّس عدداً من مقالاتي عن الانتخابات الأميركية المقبلة. ومن موقع المراقب، سأحاول متابعة العوامل التي تشكّل الموقف السياسي والعملية الانتخابية لهذا الجمع الغريب العجيب من البشر، المتّحدين -المتفرّقين، في ظل أزمة مؤلمة وشرسة، بقدر ما هي ممتعة ومشوقة.

كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق تحولاتها الدورية العاصفة، تمرّ الولايات المتحدة بأزمات بنيوية. بل يقدّر الخبراء أنّ النخب السياسية الأميركية قد بدّلت دمها وتركيبتها ثماني مرات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية استجابة وتكيفاً مع هذه الأزمات.

كان أخطرها، أزمة امتدت من منتصف الستينات إلى منتصف السبعينات من القرن الماضي، حيث اعتل نموذج الدولة الأميركية بعمق، ليصل إلى فوضى خطرة، تجلّت باغتيال جون كينيدي، ثم مارتن لوثر، وصعود حركة الحقوق المدنية، وحركة الهيبيز، والحرب الفيتنامية، إلخ. كانت هذه العلة نذيراً لتحولات سياسية وثقافية يتصارع في حلبتها قديم يموت وجديد تتعسر ولادته. بل، وفي أوج تلك الأزمة، كادت بعض النخب تستسلم لفكرة أفول النموذج الأميركي، امام تحدّيات الشيوعية.

الآن تدحرجت الولايات المتحدة إلى أزمة مجتمعية شاملة جديدة، سبقت وصول دونالد ترامب إلى السلطة.

تعكس الأزمة الراهنة، تحولات أعقد وأخطر من الأزمات السابقة، بما تحمله من تحدّيات داخلية وخارجية.

بدأت ملامح هذه الأزمة تتبلور قبل انتخابات عام 2016، ليعبّر عنها تحرك الفئات المهمشة في أعماق الريف المحافظ، ويقلب موازين التصويت ويفرض قوانين جديدة للعبة، ويجلب ترامب، رجلاً من خارج النخب السياسية والحزبية إلى البيت الأبيض.

في الانتخابات الرئاسية 2024، سيمرّ هذا الاضطراب العميق بأدق لحظاته، إذ لا يقتصر الاحتدام الشامل على الصراع حول حقوق المرأة في الإجهاض، والمهاجرين غير الشرعيين، وحقوق الأقليات، بل يتخطّاها بكثير، لتطفو فيها مجمل التناقضات والأزمات الاجتماعية المتراكمة.

أول الأزمات التي تطفو على السطح، هي أزمة تفاوت مستويات التطور الاجتماعي في الأصقاع المترامية للولايات المتحدة.

ثانيها، خروج جيل الألفية بكفاءاته وقيمه وأمواله، من دائرة الإنتاج، ليقتحمها جيل جديد تماماً، يقاتل بحداثته وكفاءاته النوعية وقيمه الحديثة، ويقلب الاقتصاد والسياسة والمجتمع رأساً على عقب. وليهمش من يهمش ويرتقي بمن يرتقي.

وفي حين تعاني النخب التقليدية المترهلة في الحزبين الجمهوري والديموقراطي، من انسداد الأفق، يمرّ انتقال السلطة بين الجيلين بمخاض عسير، ويتجلّى عجزها وتضيق خياراتها السياسية.

في هذا المناخ، يقارب الجمهوريون والديمقراطيون الانتخابات باستراتيجيتين مختلفتين.

تاريخياً، كان الديموقراطيون يركّزون على توسيع تحالفاتهم في مجتمع غاية في التنوع، ليشمل أوسع طيف ممكن من الكتل والأقليات. المعضلة هنا أنّ هذه الكتل لا تتشارك الأجندات ولا البرامج، وغالباً ما تنشب بينها معارك تلقائية، إذ يحمل المثليون، والسود، والحركة النسوية، مفاهيم مختلفة جذرياً في ما يتعلق بالحقوق المدنية. لذلك يتكرّر غياب بعض الكتل عن الانتخابات، لكونها لا تتشارك في الكثير من أجنداتها الدارجة.

في المقابل، يتمتع الجمهوريون بقاعدة أضيق تاريخياً، لكنها تكون عادة أكثر تماسكاً، إذ لا تتعارض أجنداتهم وقضاياهم بالقدر ذاته. فالمحافظون من جناح الدفاع الوطني، لا يهتمون بقضايا مجتمع الأعمال، ومجتمع رجال الأعمال لا يهتم بالقضايا التي يتبناها المحافظون الاجتماعيون. لذلك ورغم تعارضاتهم، كان الناخبون الجمهوريون يتصرفون ككتلة فاعلة موثوقة.

لكن، مع وصول ترامب للسلطة، ومن ثم، صعود جو بايدن تبدّلت هذه اللوحة بشكل كبير.

فقد عمل بايدن على ترميم وتوسيع قاعدة التحالفات والتوافقات السياسية بين الكتل، وتعميق التقاطعات البينية بين مختلف القطاعات في الحزب الديموقراطي. فبعد ان استقطب الرئيس السابق ترامب في انتخابات 2016، رجال الأعمال الكبار والمزارعين ونقابات العمال، والأقليات، بفضل التناقضات السائدة في صلب الحزب الديموقراطي، طوّر الرئيس بايدن استراتيجيته في اتجاه استعادة مواقع الديموقراطيين عبر حزم من المكاسب لرجال الأعمال في الصناعة التعدينية وصناعة السيارات وغيرها من الصناعات التقليدية. وتوجّه بقوة نحو استقطاب الأعمال في التقنيات العليا، مستخدماً حزم تمويل وتحفيز مهولة. كما يجهد في استعادة قواعد الحزب بين النقابات، عبر تمويل ودعم الصناعة التقليدية وتخفيض البطالة بين منتسبي النقابات، وتمويل مشاريع البنية التحتية بمليارات الدولارات، ناهيك عن سحب كتلة هائلة من الصناعة التقليدية من الصين نحو الحزام الصناعي في الغرب الأميركي الأوسط.

وعلى عكس المقاربة التاريخية للتحالفات، نقل الرئيس السابق ترامب المعركة السياسية إلى صلب الحزب الجمهوري. ويدخل "محافظو الأمن القومي" من الجمهوريين، صراعاً محتدماً مع "المحافظين الاجتماعيين"، حول شؤون الميزانية ومتطلبات الأمن القومي. وبدورهم، يصطدم "محافظو الأمن القومي"، مع "الشعبويين المسيحيين" حول السياسات الداخلية والخارجية للحزب الجمهوري، لتهدّد هذه الشروخ بتحييد قطاعات هامة منهم عن المشاركة في الانتخابات.

إضافة لهذه اللوحة المضطربة، تدخل حلبة الصراع جملة من العوامل الجديدة والهامة، والتي لا علاقة لها لا بالجمهوريين ولا بالديموقراطيين.

العامل الأول هو صعود دور المستقلين الذين لا تأخذهم الإحصاءات عادة، في الاعتبار. تجلّت هذه الظاهرة من خلال الانخراط الواسع للمستقلين في الانتخابات النصفية 2022، كتعبير عن قلقهم من عدم الاستقرار في البلاد. وقد بدّل دخول المستقلين موازين القوى في العديد من الولايات لصالح الديموقراطيين، ويبدو انّهم، وبخاصة جمهور النساء، سيكونون عاملاً هاماً في الانتخابات المقبلة.

يتمثل العامل الثاني في أنّه بعدما كان الاقتصاد والبطالة، والتضخم، والأسهم، هي العوامل الحاسمة في الموقف الانتخابي النهائي للجمهور الأميركي؛ تصعد الهويات العرقية والجنسانية والدينية لتصبح عوامل هامة في اللوحة الانتخابية 2024.

وتشمل هذه الهويات أطيافاً واسعة من "اليمين" و"اليسار". وتمتد من المسيحيين الانجيليين، إلى اليهود والعرب والمسلمين إلى المثليين والسود، الخ. ويقدّر الخبراء انّ هذه الظاهرة ستزيد من الاستقطاب وعدم اليقين.

تدخل الولايات المتحدة انتخابات 2024 ومجتمعها يغلي على كل الأصعدة. انّه يغلي كمرجل هائل لنمو غير مسبوق، ويغلي في الوقت ذاته، كمحرق للأزمات الاجتماعية التي تقلب أحشاءه. وكل ذلك على وقع وضع دولي متفجّر.

ثم، نعود إلى بايدن وترامب، ليصبح السؤال، أنّه على افتراض بقاء كل منهما على قيد الحياة، وعلى افتراض بقاء أي منهما خارج السجن، فمن ستختار أميركا بين ترامب المتألب الضروس والصعب، وبايدن المخاتل المحنك والصبور؟ أياً كان حظ الفوز من الاثنين، فسيكون أكبر الرؤساء الأميركيين عمراً في تاريخ البلاد. فهل عجزت هذه الماكينة السياسية والمجتمعية الأميركية الهائلة عن إنتاج بدائل؟ ليس بعد، ذلك أنّ الطور الراهن من صراع الأجيال لا يزال في أوجه، يختمر ويتعسر.

إنّه اختبار عميق وفريد للديموقراطية الأميركية.