بدأت صدور المسؤولين في الولايات المتحدة وأوروبا تضيق من احتجاجات الجامعات العريقة المنددة بالحرب الإسرائيلية على غزة، وبدأت بعض الأجهزة تفكر في استخدام «أساليب العالم الثالث» لقمع الطلاب وفض الاعتصامات، وهو ما فعلته الشرطة الأمريكية وإدارات جامعات كولومبيا ونيويورك وبوسطن وتكساس، عندما لجأت إلى القوة وفصل الطلاب المؤيدين للفلسطينيين.
حتى وقت قريب كانت الاستهانة الغربية واضحة بالتظاهرات المليونية التي تنطلق كل أسبوع للمطالبة بوقف حرب إبادة الفلسطينيين في غزة وقطع الدعم المالي والسلاح والحماية السياسية لإسرائيل، التي أصبحت في أشهر معدودة منبوذة وملاحقة في المحاكم الدولية ووسائل الإعلام والمنابر السياسية. ولم يدُرْ في خلد الزعماء الغربيين، أن تثور الجامعات بهذه الصورة، وأن تضعهم جميعاً في مآزق غير محمودة العواقب. وبعد نحو أسبوعين من انطلاق شرارة الغضب في جامعة كولومبيا، أصبحت الاحتجاجات ظاهرة عالمية، وتمددت إلى أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا، وأهمها السوربون وغيرها من الجامعات الفرنسية، التي استعادت بعضاً من أمجادها القديمة مثل أحداث مايو 1968، التي زلزلت فرنسا بقيادة شارل ديغول وأجبرته على التسلل سراً إلى ألمانيا لبحث الوضع المتدهور في باريس. ورغم أن تلك الأحداث لم تحقق الكثير من مطالبها، لكنها في السياق التاريخي، شكلت منعطفاً سياسياً وفكرياً واجتماعياً عمّ كل أوروبا والولايات المتحدة، وساهمت في ظهور نخب جديدة أكثر انفتاحاً على الحريات وتقبلاً للاعتراف بالحقوق المدنية وإنهاء الحروب والصراعات ونبذ القمع.
ما جرى قبل 56 عاماً يجد ما يشبهه اليوم، ويأتي تعبيراً عن استياء واسع النطاق من تغاضي الحكومات الغربية عما يرتكبه الجيش الإسرائيلي من انتهاكات واعتداءات غير مسبوقة تفترض المحاسبة، لكن هذه الحكومات وقفت ضد مطالب شعوبها التي عبّرت عنها طوال أشهر المظاهرات الحاشدة. وبدل الاستجابة لها هاجمتها بالتهم الجاهزة مثل «معاداة السامية» والتحريض على العنف، وهي براء من ذلك، فمن يخوضون هذه الاحتجاجات النبيلة، هم من الفئات المجتمعية المستنيرة، التي ستحمل المشعل في المستقبل، ومن حقها أن تعبّر عن رأيها من أجل تصحيح المسار، وقريباً جداً ستظهر النتائج، وأولى هذه النتائج ستكون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
تحرك الجامعات الغربية لنصرة الشعب الفلسطيني، درس تاريخي حي ينصف هذه القضية العادلة، ويعيدها إلى دائرة الضوء بعد عقود طويلة من تجاهل أصحابها والدعم المطلق لإسرائيل. ومهما كانت النتيجة التي ستنتهي إليها هذه الموجة من الاحتجاجات، فقد غرست حقيقة جديدة في المشهد السياسي الغربي الذي مازال يتعالى عن الواقع العالمي المتغير. وهذه الاحتجاجات مثل نظيرتها في ستينيات القرن الماضي تهدف إلى إسقاط الكثير من الأقنعة المصطنعة، وتأسيس نقطة تحول ثقافية واجتماعية وأخلاقية وسياسية تنقذ العالم الغربي من التردي الكبير الذي وقع فيه في السنوات الأخيرة، وافتضح أمره في الحرب الإسرائيلية على غزة. وكل هذه الأوضاع بحاجة إلى ثورة وتصحيح، وربما ستكون هذه الاحتجاجات مدخلاً لميلاد طروحات فكرية وسياسية جديدة تؤمن بحقوق الشعوب، ومنها الشعب الفلسطيني، وتحرّر الغرب من أسر معتقدات سياسية بالية بدأت الأحداث المتسارعة تتجاوزها وتركلها بعيداً عن طريق التغيير الذي يبدأ من الجامعات، أملاً في حضارة عادلة وحقوق شاملة، دون تمييز أو عنصرية.
التعليقات