لا تاريخ للفن خارج تاريخ الإنسان. لا يمكن الفصل بينهما، ورؤية أحدهما منعزلاً عن سياق الآخر، مع إقرارنا بأن للفن مقداراً من الاستقلالية، ذات الصلة بآليات تطوّره، فمهما كان هذا الفن محكوماً بقوانين التطور الاجتماعي- الاقتصادي، تؤثر فيه ويتأثر فيها، فإن له أيضاً قوانينه الداخلية الخاصة به التي لا تنفي اشتباكه مع الواقع، كون هذا الأخير هو الفضاء الذي منه يستمد الفن مادته، حتى لو كان للمُخيّلة مساحتها التي لا تنكر في الإبداع الفني، لكن أليست المُخيّلة، بدورها، مهارة من مهارات البشر، خاصة الموهوبين فنياً منهم؟
لا يقف الأمر هنا فقط؛ فلولا الإنسان ما حُفظ تاريخ الفن، ولعلّ هذا ما عناه المفكر الراحل محمود أمين العالم حين أشار، في إحدى مقالاته، إلى أنه لولا الاتصال بين الإنسان والفن ما استطعنا نحنُ أبناء هذا الزمن «أن نتذوق الرسومات التي نجدها في مغارات ما قبل التاريخ، أو الأغاني القديمة، أو ملحمة هزيود أو معلقة عنترة ابن شداد، أو قصائد تأبط شراً».
وهنا لا بد أن يجري تحديد المقصود بالفن، فليس كل ما يطلق عليه فناً هو بالضرورة كذلك، وهذا ما يراه، مثلاً، ليف تولستوي، مستخدماً العمارة كمثال، حين قال: «ثمّة في العمارة أبنية بسيطة لا تصحّ أن تكون مادة للفن»، وهناك أبنية يدعي أصحابها أنها مادة فنية، لكنها، بتعبيره «غير موفقة ومشوهة». والأرجح أن الحس الفطري للإنسان حتى لم يكن متمكناً من المعرفة بشكل كبير يتيح له هذا التمييز بين الحقيقي والمزيّف. الفن الحقيقي العظيم عابر للزمن. ألم يقل محمود درويش: «هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين/ مِسَلةُ المصريّ، مقبرةُ الفراعنةِ/ النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ/ وانتصرتْ، وأفْلَتَ من كمائنك الخُلُودُ».
ومسألة الحياة والموت هنا نسبية. حين وقف كارل ماركس أمام «خلود» الفنون الإغريقية القديمة رأى أن السبب يعود إلى كونها «تُصوّر الطفولة الاجتماعية للإنسانية في أجلّ مرحلة من مراحل تطوّرها»، لكنه قال أيضاً: «إنها مرحلة لا يمكن استعادتها، وهذا هو مصدر السحر الباقي الذي نحسّ به في تلك الفنون». وكأن في الأمر شيئاً من الحنين.
حين وقف محمود العالم أمام هذا القول، وجده تفسيراً غير كافٍ، لأن الحضارة الإغريقية لا تُمثّل، من وجهة نظره، الطفولة النموذجية السوية للإنسان؛ بل لعلّ في الفن المصري القديم آثاراً أعمق وأخصب، لكن العالِم، على الرغم من ذلك رأى أن الفكرة نفسها، من حيث المبدأ، تتضمن حقيقة كبيرة، هي أن «الفن الذي يمكن أن يعبر عن لحظة تاريخية محددة، يمكن أن يُعبّر كذلك عن لحظة إنسانية شاملة»، لأنه يمارس سحراً أبدياً.
التعليقات