عندما كان الشيخ مشعل الاحمد وليا للعهد، ألقى في حزيران (يونيو) 2022 خطاباً باسم الأمير حدد فيه مكامن الخلل في العلاقة بين مجلس الامة والحكومة وانتقد أداء السلطتين التنفيذية والتشريعية. تحدث وقتذاك بإسهاب عن التجاوزات، ثم قال جملة ربما لم يتعامل معها كثيرون بالجدية المطلوبة وهي: "سيكون لنا في حالة عودتها (التجاوزات) اجراءات أخرى ثقيلة الوقع والحدث".
من ولاية العهد إلى الامارة، اعاد الشيخ مشعل الاحمد التذكير بالتجاوزات وبأثرها على المشهد السياسي والأهم على الدورة الاقتصادية وعجلة التنمية. أعاد حل المجلس متمسكاً بالمهل الدستورية التي تنص على اجراء انتخابات خلال 60 يوماً من الحل، مراهنا على تغيير السلوك السياسي للبعض أكثر من الرهان على تغيير الوجوه... استمراراً لنهج العلاج بالمسكنات الذي جبل عليه الامراء السابقون بغية تأسيس قاعدة أفضل للتلاقي بين السلطات وتوجيه جهودها نحو التنمية بعدما شاهد الكويتيون انهم صاروا في نهاية الركب الخليجي، وأن الشلل الاقتصادي الذي أصاب دولتهم مرده الى التأزيم السياسي الذي "فرمل" كل المشاريع.
هذه المرة، قرر أمير الكويت الذهاب الى الكي آخر العلاج، والى العملية الجراحية لانقاذ ما يمكن انقاذه. العوامل المباشرة التي أدت الى قرار حل البرلمان الكويتي والاتجاه الى تعديل الدستور تمثلت في تمادي بعض اعضاء المجلس في الزحف على صلاحيات امير البلاد. بعضهم صار يشترط مواصفات معينة لولاية العهد. بعضهم صار يشترط توزير فلان وإبعاد فلان عن الوزارة وهذه كلها صلاحيات خالصة للأمير. بعضهم هدد بالويل والثبور إن استمر تطبيق القانون على مزوري الجنسية او حملة الجنسية المزدوجين، وكأن تطبيق القانون صار تهمة في الكويت. كما ان بعضهم تمادى قبل ذلك وانتقد كلاماً للامير عن تحالف السلطتين للاضرار بالمصالح العليا ل
لكويت، بل ذهبوا الى القول انه ضد التصويت على المخصصات الماليّة للأمير. العوامل غير المباشرة تمثلت في أمرين: تحول بعض النواب وشخصيات عامة الى أدوات عند بعض الاقطاب الطامحين للسلطة وبالتالي تعطيل كل شيء من أجل المصالح المشتركة. وتمادي قوى سياسية بينها الاسلام السياسي بشقيه السني والشيعي في الدخول على خط المزايدة في ما يتعلق بموضوع غزة وفلسطين وتحول تحركاتهم واعتصاماتهم السابقة من تأييد الحق الفلسطيني الى تحويل "ساحة الإرادة" منبراً للتهجم على دول شقيقة وصديقة للكويت. وربما كان اتصال رئيس دولة الامارات الشيخ محمد بن زايد بالشيخ مشعل الاحمد مؤيداً قراراته ومعلناً الدعم والتضامن، وهو اول زعيم من خارج الكويت يعلن هذا الموقف، مؤشراً الى الدعم الاقليمي الذي تتلقاه الكويت، وهو دعم مستند الى أن مصالح دول مجلس التعاون الخليجي واحدة، والى أن التضامن لمواجهة تحديات أكبر بكثير صار مسألة وجود.
مجدداً، يمكن القول إن أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد حسم كل الملفات العالقة دفعة واحدة، وقرر إنهاء العلاج بالمسكنات والانتقال إلى الجراحة العميقة، لنقل الكويت من مرحلة المراوحة القاتلة والفرص الضائعة إلى مرحلة التنمية الشاملة لتلحق بركب شقيقاتها في دول مجلس التعاون الخليجي. ولأن "اضطراب المشهد السياسي وصلَ إلى مرحلة لا يمكنني السكوت عنه"، قرر الأمير حل مجلس الأمة الجديد الذي انتخب أعضاؤه قبل حوالي شهر ولم يقسموا ولم يصبحوا نواباً سابقين، مع وقف العمل بالعديد من مواد الدستور التي لها علاقة بسلطات المجلس، مع تخويل هذه السلطات إلى الأمير ومجلس الوزراء. "القرار الصعب" الذي اتخذه "إنقاذاً للبلد وتأميناً لمصالحه العليا والمحافظة على مقدرات الشعب"، عزاه الشيخ مشعل إلى وصول تمادي البعض إلى "التدخل في صميم اختصاصات الأمير"، سواء في ما يتعلق بوضع الشروط لمشاركة النواب في الحكومة، أو التدخل في اختياره لولي العهد، أو تحويل حق الاستجواب الذي يعطيه الدستور للنائب إلى "وسيلة للابتزاز والتهديد" و"طريقاً للحصول على مكاسب أو منافع شخصية".
اتسم خطاب الشيخ مشعل بالشمولية. بدا كأنه مراجعة ليس فقط لحقبة واحدة وإنما لحقبات طويلة الأمد، مشدداً على أن "إغلاق كل المنافذ" بوجه الدستور يجعله عاجزاً عن "القيام بدوره المنشود"، و"يصبح من الواجب التدخل وقبل فوات الأوان".
انطلق في توضيح أسباب قراره من أن الدستور كـ"وثيقة تقدمية تستجيب لمتطلبات الحياة ومتغيراتها يجد متنفسه بانسجامه مع الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية والأخلاقية السائدة في المجتمع"، و"لا بد له من التوافق مع الظروف المستجدة في قدرته على استيعابها". بذلك طوى الأمير صفحة من تاريخ الكويت وفتح أخرى عنوانها ضخ القوة والسرعة في عجلة الحكومة كي تُنجز بالفعل ما هو مطلوب منها من دون عراقيل. وقف العمل ببعض مواد الدستور اقترن بقرار بمراجعة شاملة للممارسة الديموقراطية الواردة في الدستور، خلال 4 سنوات، ما يعني أنه ستتم إعادة النظر بالكثير من مواده، وصولاً إلى تعديلات شاملة يصار إلى إقرارها وفق قواعد قانونية واضحة.
في المعطى الواقعي، لن يكون تيار الإسلام السياسي في حالة من الارتياح، لأن دوره كان أساسياً في التأزيم خلال المرحلة السابقة، سواء من خلال جماعة "حدس" (الفرع الكويتي للإخوان المسلمين) وتبادل لعب الأدوار بين نوابها المعلنين والمستترين، أو من خلال التجمعات التي حدثت في "ساحة الإرادة" لنصرة غزة، وشهدت بعض الإساءات لدول شقيقة، تحت عناوين واهية. كذلك الأمر بالنسبة إلى الجماعات القريبة من إيران التي يجب عليها إعادة حساباتها ووزن تصرفاتها، انطلاقاً من تجربتها وتحسباً لما هو قادم. لم يكن خطاب أمير الكويت تاريخياً فحسب، وإنما اتسم أيضا بالدقة والشفافية في التشخيص ووضع الحلول، وصولاً إلى النبرة الحازمة بعدم السماح على الإطلاق بـ"أن تستغل الديموقراطية لتحطيم الدولة"، و"أن تتكرر الممارسات غير المقبولة" وأن يتم "المساس بهيبة رجال الأمن واحترامهم".
اللافت أيضاً هو الاستياء الكبير من الممارسات البرلمانية بالإشارة إلى أن قاعة عبدالله السالم (قاعة البرلمان) "بدلاً من أن تكون مكاناً لممارسة ديموقراطية سليمة أصبحت مسرحاً لكل ما هو غير مألوف أو مقبول من الألفاظ والعبارات". رسم الشيخ مشعل بقراراته خطاً فاصلاً بين مرحلة مريرة كان للنواب فيها اليد العليا لوضع العصي في الدواليب وابتزاز الحكومة وتخويف الوزراء بمنصة الاستجواب، إلى مرحلة القوة والحزم والحسم وتغيير ملامح المستقبل، من خلال حكومة تعمل ومواد دستورية جديدة تكون كفيلة بانتظام عمل المؤسسات بطريقة مختلفة جذرياً عما كان سائداً على مدى حوالي 6 عقود
التعليقات