إذا وافقت الغرفة المختصة في المحكمة الجنائية الدولية على طلب المدعي العام فيها كريم خان إصدار مذكرات توقيف بحق قادة الحرب في كل من إسرائيل وحركة "حماس"، فإنّ التاريخ في الشرق الأوسط سوف يفتح صفحة جديدة! صحيح أنّ إسرائيل، في هذه الحالة، سوف تضطر إلى إعادة النظر في قوة الردع التي تعتمدها، وهي تقوم على إلحاق أذى قاتل ببيئات أعدائها، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ التنظيمات المعادية لها، سوف تجد نفسها فاقدة للشرعية التي تعتقد بأنّها تتيح لها تحت عنوان "المقاومة والتحرير" ارتكاب عمليات قاتلة تتضمن خطف المدنيّين، كما فعلت "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. إنّ طلب إصدار مذكرتي توقيف ضد رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، قد أخذ اهتماماً واسعاً، نظراً لارتباط إسرائيل بعلاقات مميّزة مع الغرب، لكن المتضرر الأكبر من هذا الطلب هو "جبهة المقاومة"، إذ إنّه ليس تفصيلاً بسيطاً أن يتم حرمان رافعي لواء رمي إسرائيل في البحر، من أدوات حصول ذلك، أي القيام بكل ما يستلزم من أجل إحباط الشعب الإسرائيلي ودفعه الى التخلّي عن دولته بسبب عجزها عن توفير الحماية اللازمة! وإذا كان يستحيل على مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، وهو الذي سبق أن تدخل في أكثر من حرب، وآخرها تلك التي يشنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا، بحيث تمّ إصدار مذكرة توقيف دولية ضده، أن يغض الطرف عمّا تفعله إسرائيل في قطاع غزة، بحيث وصل التدمير والقتل الى مستويات خطرة، بكل المعايير الإنسانية والقانونية، فإنّ طلب إصدار مذكرات توقيف ضد اسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد ضيف، أي الثالوث القيادي، سياسيّاً وعسكريّاً، في "حماس"، يعني أنّ هناك توجهاً دوليّاً غير مسبوق، من أجل تقديم أوّل تعريف من نوعه للإرهاب، بحيث لا يبقى متستراً في ثنايا مفهوم المقاومة! وهذا سلوك غير مسبوق في الشرق الأوسط، وسوف تكون له تداعيات على المستوى العالمي. إنّ إدراج المحكمة الجنائية الدوليّة لعمليّة السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) تحت بند الإرهاب والسلوك المناهض للإنسانيّة، يعني أنّ أفعال المقاومة لن تبقى متفلّتة من الضوابط، كما أنّ إدراج ما قام به الجيش الإسرائيلي في حربه ضد غزة في الخانة نفسها، يعني أنّ أفعال الدفاع لا يمكن أن تكون هي الأخرى "مفتوحة" على الانتقام من المدنيّين وحياتهم وكراماتهم وممتلكاتهم ومساكنهم ومؤسساتهم. صحيح أنّ ليس لهنية والسنوار أو ضيف ما يخسرونه من إصدار مذكرات توقيف دولية بحقهم، وهم مدرجون على لوائح القتل الإسرائيليّة، في حين أنّ نتنياهو وغالانت يخسران كثيراً، لكنّ الصحيح أكثر أنّ إدخال تعديلات على مفهوم المقاومة يُربح دولة إسرائيل على المدى المتوسط، إذ لا تعود مضطرة لمواجهة ما سبق أن واجهته في السابع من تشرين الأول. وليس سرّاً أنّ الإسرائيليّين، بوقوف معظمهم وراء تجاوز القوانين الدولية في الحرب على غزة، إنّما يعبّرون عن رعب شديد من تكرار ما حصل في "غلاف غزة" في "غلاف جنوب لبنان" و"غلاف جنوب سوريا" و"غلاف الضفة الغربية". إنّ قوة تنظيمات "المقاومة" تنبع من أنّها تحرّر نفسها من القيود في السعي الى تحقيق أهدافها، ولكن في حال فقدت هذه "الحرية" فسوف تضطر إلى تقديم تنازلات كبيرة، الأمر الذي يُعفي الدول المستهدفة بسلوكيات "المقاومة" من الحاجة الى اعتماد ردة فعل غير إنسانية وتندرج في خانة إرهاب الدولة. إسرائيل مستاءة من مساواتها بـ"حماس" و"حماس" مستاءة من مساواتها بإسرائيل، لكن لا بدّ من الاستناد الى خطاب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس في قمة المنامة العربية، ومختصره لولا وحشية "حماس" لما أخذت إسرائيل مبرراً لممارسة التوحش في غزة! من دون أدنى شك، فإنّ إسرائيل كما "حماس" سوف تقاومان بشدة مقررات المحكمة الجنائية الدولية، لكنّ الشرق الأوسط ليس خائفاً على حاضره من التطرّف المنتشر في كل بيئاته، إذ إنّه على الرغم من أنّه يعاني منه الأمرّين لا يزال قادراً على التصدي له، بل هو خائف من هذا التطرّف على مستقبله، وقد جاء طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في خدمة تغليب منطق الاعتدال على منطق التطرّف!