بينما كنت أكتب مقالتي لـ"لنهار" اللبنانية في أحد مقاهي إنكلترا، رمقني شخص على أعتاب العقد السادس من عمره، وقد أضاء الشيب هامة رأسه. لأول وهلة ظننته يبادلني ابتسامة مجاملة لأكتشف لاحقاً أنه كان يراقبني طوال الوقت. بعدما هممت بالمغادرة، وقف ليعرفني بنفسه ويصافحني بحرارة، ومد إلي ظرفاً صغيراً حَشَرَ فيه كوبون مشتريات مجانية وقصة قيمية بحجم الجيب وقال: هذه هدية بسيطة من مبرتي الخيرية، فأنا كنت من أسرة فقيرة جداً، وبعدما تيسرت أموري، صار هدفي في هذه الحياة أن أسعد الناس! شكرته على حسن كياسه وسخائه. وقد أثر بي موقف هذا الرجل النيوزلندي وقررت أن أحذو حذوه. العطاء معدٍ، ويتعاظم أثره مع عنصر المفاجأة ويفقد بريقه بالاعتياد عليه.

روعة العطاء أنه تقديم شيء ما إلى الآخرين من دون انتظار مقابل. ويعزف كثيرون عن العطاء حينما ينتظرون شيئاً لقاء ما يقدمونه. وأرقى العطاء ما يكون من فيض المشاعر، وإرهاف السمع، وتقبل الآخرين كما هم. وينبع العطاء مما تجود بها قرائحنا من أفكار ومعلومات ونصائح تكتب بماء الذهب. وذروة عطائنا هي في منح الآخرين جزءاً من أوقاتنا. فالوقت في عصرنا بات أثمن ما نقدمه للآخرين. ولا يُقدِر ذلك سوى من بلغت به الوحدة والهمّ كل مبلغ، فيأتي وجودنا إلى جانبه كالبلسم.

ولولا عطاء أصحاب الخبرات والملهمين والمرشدين mentors لما بدأت رحلة التتابع في ميادين العمل والحياة. فنحن نرقى بالوقوف على أكتاف العمالقة. هكذا نختصر المسافات ويمتد أمد رؤيتنا إلى آفاق بعيدة.

ويتخطى السخاء دائرة العطاء. ذلك أن الأول يميل نحو الإيثار وجزيل العطية. السخي أقرب إلى الكريم. ولذلك خلد التاريخ الكريم في أدبيات الشعوب. ولا يكاد يخلو منهج تعليمي عربي من سيرة حاتم الطائي. وما زال كرم أهل منطقة حائل بالسعودية امتداداً لمسقط رأس أيقونة السخاء العربي. ولهذا قال الشافعي:

إن كثُرت عُيوبُك في البرايا

وسرك أن يكون لها غطاءُ

تستر بالسخاء فكل عيب

يغطيه كما قيل السخاء.