يمتنع الحوار أو يستحيل، داخل كلّ ثقافة أو بين ثقافات مختلفة، حين لا يكون من فاعلٍ في ميدان الثّقافة سوى المتكلّم وحده؛ ذلك الكائن الذي يحتكر لنفسه الحق في الكلام: في إنتاج المعنى، أو في نشره، أو في تبريره. وهو لا يكتفي بأن يصادر حق الآخرين في الكلام فينوب عنهم في القيام به منفرداً، فحسب، بل يزيد على احتكاره ذاك حمْلَه إيّاهم على الإصغاء إليه، ما دام الكلام خطاباً، وما دام هو المرسِل ذاك الخطاب وهُم المتلقّين إيّاه. أمّا هو، في ما يُقدِّر، فلا جُنَاحَ عليه إن أبى إصغاءً إلى غيره؛ إذْ وظيفته الكلام لا السّماع وعُدّتُه اللّسان لا الأذُن! بل كيف تنشأ ثقافةٌ من دونه؛ هو المأذونُ لهُ من نفسه في أن يكون الباري لها، وصاحبَ الرّسالة، رسالتها، في آخرين همْ عنده، دائماً، في حكم المخاطَبين بها؟!

قد يقال إنّ سلطة الكلام هذه باطلة، لأنّه هو من يمنحها لنفسه من غير استئذانٍ ولا احتفالٍ بما عساه يكون رأي الآخرين فيه، أو بما عساها تكون مشروعيّة ما يَكِلُه إلى نفسه من دور؛ بل سيقال إنّ منتهى بُطلانها أن يطلبها لنفسه من حيث هي حقٌّ حصريٌّ له لا يَشْرَكُه فيه أحد، فتراه ينتحلها لنفسه وكأنّها من أملاكٍ سيقَتْ إليه بالوراثة أو باحتيازٍ حصْريّ! والقولُ بهذا البطلان صحيحٌ متى علمنا أنّ فعْلَ الإبداع والمعرفة وإنتاج المعنى استحقاقٌ، في المقام الأوّل، وأنّ مَأْتاه من تسليم المحيط به - قرّاءً ومثقّفين ومجتمعاً - اعترافٌ من ذلك المحيط بمن ينهض بأداء ذلك الفعل على نحوٍ يُشبِع الانتظارات الجمعيّة: الثّقافيّة والاجتماعيّة. ولكن، ماذا لو كان المزاج العامّ السّائد يقبل بوجود هذه الحال التي تبدو لنا شاذة: أعنى حال المتكلِّم المحتكِر الكلامَ لنفسه من دون سواه، ويرى (المزاجَ نعني) أنّهما الحالُ الطّبيعيّة في كلّ ثقافة؟ ماذا لو أبدى المجتمع تعايُشه مع ثقافة المتكلِّم وحده وارتضاها لنفسه من غير تبرُّمٍ بها أو ضِيقٍ أو حتّى جدل؟!

هذا ليس سؤالاً افتراضيّاً؛ إنّه ينطلق من حالةٍ واقعيّة يستجمع شواهدَه من موادّها المجتمعيّة المتفرّقة؛ ونعني بها حالة المجتمع العربيّ مع الثّقافة ومن يَعْتلون مسرَحَها من الكتّاب والمبدعين والباحثين. يبدو لي أنّ مستهلكي المنتوج الثّقافيّ العربيّ، من القرّاء العرب، لا تستوقفهم ظاهرةُ احتكار القول وانتحالِ صفة صاحب الكلام الفصل في هذا الشّأن أو ذاك لدى المعظم الغالب من الكتّاب.

قد يأتي يومٌ نبحث فيه المسألة من مدخل السّؤال الإشكاليّ التّالي: من قاد إلى هذه الحال؛ المتكلِّمُ وحده الذي فرض شريعتَه على المجتمع المتعلّم فدفعه إلى أن يستبطن الشّعور بالتّلازم بين الكلام وأستاذيّةِ المتكلّم ومرجعيّتِه النّافذة، أم المجتمع نفسه الذي أسّس لوجود مثل ذلك المتكلّم بقيمه الجمعيّة التي تبعث على السّيطرة وتُبجِّل من يقوم بها؟ يكفينا، الآن، أن نلاحظ إلى أيّ حدٍّ تتعزّز فرص رسوخِ نموذجِ المتكلّم وحده في الحياة الثّقافيّة العربيّة كلّما تلقّاهُ المجتمع بالرّضا والقبول! ثم يكفينا أن نتخيّل أيّ نكبةٍ ستصيب الثّقافة والإبداع كلّما تَكاثَر نوعُ المتكلّم وحده فصار كلُّ متكلّمٍ سِيّاً للثّاني وضريباً بحيث يتعاورون جميعاً على الثّقافة التي تصير بوجودهم قاعاً صَفْصَفاً! وهكذا سيتحوّل الواحد من هؤلاء إلى جزيرةٍ مهجورة لا صلات تَشُدُّها إلى غيرها، وستَنْقَفِل أبوابُ التّواصل والحوار فلا يعود في عالم الثّقافة غيرُ الصّوت الواحد: صوتُ الواحد الأحد؛ صوتُ المتكلّم وحده.

أخلاق المتكلِّم وحده أخلاقٌ نرجسيّة بامتياز، تدور على الذّات دورانَ أفكاره عليها. لذلك تؤدّيه نرجسيّتُه، مثل أيّ مولوعٍ بنفسه، إلى وثوقٍ بما يَفُوهُ به أو يكتبُه: فيُخيَّل إليه أنّه منْبع الحقيقة ومرجعُها أو مستودعُها، وأنّه منذور لأداء دورٍ متفرّد في تمكين المجتمع من المعارف الصّحيحة.

وما من شكّ في أنّ فائض الثّقة بالنّفس وبما تَحْتازُه من مَلَكاتٍ ثقافيّة؛ هذا الذي يساوره يقينٌ به، سرعان ما يأخذُه، حكماً، إلى نزعةٍ من التّمركز الذّاتيّ أو التّمركز على الذّات. حينها ينقطع بينه والعالمِ حبْلُ السّرّة فينكفئ إلى داخله متشرْنقاً، على الرّغم من أنّ غايتَه ليست أن يكلِّم نفسَه فقط، بل أن يُودِعَ «عِلْمَه» وفُصوص «عبقريّته» في غيره. ولكن، ما نلبث عند التّدقيق، قليلاً، في هذه النّازلة أن نهتديَ إلى فكِّ لغز تلك العلاقة المَكينة بين التّمركز الذّاتيّ والانكفاء على الذّات، من جهة، وتصميم الكلام على هيئة خطابٍ إلى الآخرين، من جهة ثانية؛ هكذا نكتشف أنّ وظيفة المُخاطَبَة، من جانبٍ واحد - جانب المتكلّم وحده -، استدراجُ المُخاطَبين إلى إبداء فعْل الإيمان بمَقُوله أو بمكتوبه والتّنويهِ به وتَبَادُلهِ مع آخرين في المحيط. على أنّه لا يريد بهذا الاستدراج أن يَنْقُل معرفةً أو أثراً ثقافيّاً تتحقّق به اجتماعيّة الأثرِ ذاك وتداوليّتُه، بل يريد به إشباع نَهَمه إلى نرجسيّته!

abdilkeziz29.gmail.com