تنماز الثّقافة الشّعبيّة عن الثّقافة الرّسميّة، الوطنيّة أو العالِمة، بأنّها إبداعٌ شعبيّ صرف يأتيه النّاس بالتِّلقاء وليس فعْلَ نخبةٍ ثقافيّة متعلّمة. على أنّ «فِطريّة» الثّقافة الشّعبيّة أو «عفويّتها» لا تنال، أَلْبتّةَ، من قيمتها ومستواها التّعبيريّ والجماليّ. نعم، قد تكون درجة الصّنعة فيها أقلَّ تعقيداً ممّا هي عليه الحبكة في الثّقافة الرّسميّة، غير أنّ بساطتها قد تكون في جملة ما يجعلها شأناً متاحاً الانخراطُ فيه من قِبَل أعرض قاعدةٍ من النّاس، وفي جملة ما يتيح انتقالها السّلس في المجال التّداوليّ العامّ. على أنّ أظْهَر سمةٍ لهذه الثّقافة الشّعبيّة - وهي ما يجعلها متاحةً للعموم: إِنْ كان إنتاجاً أو استهلاكاً - هو عدم توقُّف وجودها على التّعليم والدّرس المدرسيّ كما هي الحالُ في الثّقافة الرّسميّة؛ إذْ ما كانتِ المؤسّسة (المدرسيّة، الأكاديميّة) بيئتَها، بل ما زادت بيئتُها الفعليّة على أن تكون الثّقافة الجمعيّة السّائدة في المجتمع ومحصَّلة الموروث الثّقافيّ. لذلك، ليس هناك مجتمعٌ من مجتمعات الأرض يَعْرى شعبُه - بجماعاته المختلفة - من ثقافةٍ خاصّة به هو نفسُه مَن انتحلَها لنفسه وبها عُرِفت شخصيّتُه.
تَرُدُّ عفويّةُ هذه الثّقافة إلى كونها تتنزّل من اليوميِّ والمَعيش، في المجتمعات الإنسانيّة، التي تطلبُ لنفسها الإشباع الفوريّ. ليستِ الحاجةُ الباعثةُ عليها سوى الحاجةُ إلى التّعبير: التّعبير عن الذّات الفرديّة والجماعيّة؛ عن تمثُّلاتها لنفسها وللعالم المحيط؛ عن منظومة قيمها ومعاييرها، عن أذواقها ورؤاها الجماليّة، عن أخلاقها العامّة، عن تقاليدها وأعرافها وعوائدها وأساطيرها...إلخ. ولعلّ أَمْيزَ ما يتميّز به هذا التّعبير عن سواهُ من أنماط التّعبير الأخرى العالِمة أنّه شفّافٌ ومتحرِّر من الرّقابة التي تفرضها اللّغة، عادةً، على الكلام أو على الخطاب؛ لذلك تنشأ منه مادّةٌ قابلةٌ لأن تصير وثيقةً موثوقة عن نظامٍ اجتماعيّ أو ثقافيّ وقابلةٌ، بالتّالي، لاستخدامٍ معرفيّ ودراسيّ يروم اكتناه الكثير ممّا لا يسَعُه الوصولُ إليه، عادةً، من طريق المادّة الثّقافيّة العالِمة.
لا تعني الملاحظةُ الواردة أعلاه أنّ الثّقافة الشّعبيّة خالية، تماماً، من شوائب الثّقافة العالِمة؛ من قبيل التّوريّة أو الإخفاء، والتّقنيع والخداع والإيهام... وسواها من الكيفيّات التي تتمظهر فيها الفاعليّات الإيديولوجيّة، بل هي كثيراً ما تلجأ إلى توسُّل هذه الأساليب، أو إلى التّرميز. مع ذلك، تظلّ نسبةُ المطموس فيها والمتلاعَب به أقلَّ ممّا هي في غيرها الآخر. ولكنّ الأهمّ من هذا كلّه أنّ المرموز إليه فيها والمنتمي منها، عامّةً، إلى غير المشعور به يقدِّم للمعرفة مورداً خصباً لفكّ شيفرته، لأنّه يظلّ أقلّ استعصاء على التّحليل، وما ذلك إلاّ لأنّ مبْنى هذه الثّقافة على الإفصاح الذّاتيّ التّلقائيّ. هذا ما يفسّر الإقبال الشّديد على هذه المادّة الثّقافيّة من الدّرس الأنثروپولوجيّ؛ إذِ الأنثروپولوجيا وحدها تملك الأدوات المفهوميّة القمينة بتحليل مركَّبها من الأبعاد المُوعَى بها وغير الموعَى.
تُقدِّم الثّقافة الشّعبيّة نفسَها في صورٍ، ومن طريق أشكالٍ، مختلفة: مكتوبة، منطوقة، منقوشة، حركيّة...إلخ، مثلها في ذلك مثل الثّقافة العالِمة. غير أنّ حيِّز المكتوب فيها قليلٌ جدّاً إنْ قيسَ بنظيره في الأخرى، لأنّ الغالب عليها هو التّعبير الشّفويّ غيرُ المقيَّد بنظامٍ من القواعد صارمٍ على مثال ما هي عليه الكتابة في الثّقافة العالِمة. مع ذلك، يمكن للمادّة الثّقافيّة الشّعبيّة أن تضاهيَ، في القيمة الجماليّة أو في الاقتدار التّعبيريّ، ما يناظرها في الثّقافة العالِمة من منتوج. وهذا ما يفسّر - مع عوامل أخرى - لماذا يظلّ منتوج الثّقافة الشّعبيّة موضعَ جاذبيّةٍ وإغراء لكثيرٍ من المنتمين إلى دوائر الثّقافة الرّسميّة، ولماذا ينصرف كثيرٌ من كتّاب الأدب أو من الفنّانين أو من الباحثين، مشغوفاً، إلى توسُّل خاماتها في إنتاجه، والسّعي إلى إعادة تصنيعها في قالبٍ جديد.
ولقد يكون من الحظّ الحَسَن الذي لا قتْه الثّقافات الشّعبيّة، في العالم كلِّه، أنّ الاعتناء بها عَلاَ مقدارُه كثيراً في ميادين مختلفة؛ في الميدان الفكريّ والأكاديميّ: في التّأليف والبحث العلميّ والدّراسات الجامعيّة (خاصّةً في مجالات الآداب والأنثروپولوجيا الثّقافيّة)؛ وفي ميدان الإنتاج الأدبيّ والفنيّ (من مسرح وسينما وموسيقا)؛ ثمّ في ميدان السّياسات الرّسميّة للدّول حيث أحاطت هذه الأخيرة الثّقافةَ الشّعبيّة بقدرٍ كبير من الرّعاية، ربّما بدتْ فائدتُه من خلال تمكين هذه الثّقافة من الموارد والبرامج والمؤسّسات التي تنهض بأوضاعها النّهوض الأفضل. وهو حظٌّ حسنٌ، حقّاً، لأنّها تعرّضت لسوء الاعتناء وللتّهميش لفترةٍ طويلة ممتدّة في معظم مجتمعات العالم، ربّما لأنّها ظلّت ترمزُ إلى التّقليد في بيئاتٍ كانت مأخوذة بفكرة التّحديث!
التعليقات