واقعياً، لا شيء يشير إلى هدنة ستة أسابيع لتبادل الأسرى (المرحلة الأولى) يمكن أن تمهّد لإنهاء الحرب الإسرائيلية على غزّة (المرحلة الثانية)، ولا أي مؤشّرات إلى "إعادة إعمار" في مرحلة ثالثة قريبة. بيّنت الوقائع أن الرئيس الأميركي تأخر كثيراً، بل كثيراً جداً، في التحرّك. وعندما فعل لم يكن قد بنى المقدمات الضرورية لبلوغ الهدف، أي إنهاء الحرب، فأثبت عملياً أنه غير قادر على إنهائها، ولأنه ذهب بعيداً طوال شهور سابقة في تزكية منطق الحرب الإسرائيلي، فمن الطبيعي أن يجد صعوبة في لجمه. فقد اضطر لأن يغطي مناورته بكون الاتفاق المقترح "إسرائيلياً"، كما لو أنه طرف "محايد" يتعامل مع معطيات قُدّمت إليه، ولم يكن له سوى أن يفسّرها ويستخلص منها العبر. غير أن الحليف/ الخصم الإسرائيلي استطاع أن يفرمل اندفاعة جو بايدن الذي وجّه كل جهوده للحصول على موافقة "حماس" كي يسترشد بها في بحث عن اتفاق يقول إنه "على الطاولة" لكن بنيامين نتنياهو رماه في المتاهة، ليس فقط لإطالة الحرب بل من أجل "مصالحه السياسية" الشخصية، كما بات بايدن نفسه يعترف به.

لا فرق إذا كان "الاتفاق المقترح" إسرائيلياً أم لا، فهو مجرد حبر على ورق لزوم المناورة لكسب الوقت، وللتظاهر أمام ذوي الأسرى بأن نتنياهو ومجلس الحرب يتعاملان مع "استعادة المحتجزين" كأولوية، فيما أولوية نتنياهو وحلفائه المتطرّفين في الحكومة هي المضي في الإبادة بالقتل والتجويع تحت عنوان "القضاء على حماس". وقد شكّلت عملية تحرير أربعة من الرهائن وإخراجهم من مخيم النصيرات نموذجاً لتعاون استخباري أميركي - إسرائيلي قد يتخذه فريق بايدن مثالاً لما يدعو إلى تطبيقه في رفح من دون اجتياحها، متجاهلاً أنه كلّف 210 قتلى فلسطينيين وأكثر من 400 جريح معظمهم من المدنيين. أما فريق نتنياهو فيعتبره تزكية لإفشاله مشاريع الهدنة ولدعوته الدائمة إلى مواصلة الضغط العسكري على "حماس" وسيلة لتحرير الرهائن. لكن إمكان تكرار العملية بنجاح غير مضمون، لذلك يطالب ذوو الرهائن الحكومة بالموافقة على "صفقة تبادل". وفي أي حال تلقّت فصائل غزّة عملية النصيرات هذه كإنذار لما سيكون، وبالتالي فهي ستّبدّل إجراءاتها لضمان سرّية أماكن وجود الرهائن، باعتبارهم ورقتها الوحيدة للتفاوض على إنهاء الحرب.

بالنسبة إلى "حماس"، جاءت عملية النصيرات في توقيت بالغ الدقّة وزكّت شروطها، فيما تنتظر الأطراف الدولية جميعاً، بما فيها واشنطن، موافقتها على "الصفقة" المقترحة، إذ قال زعماء 17 دولة لها مواطنون محتجزون في غزّة في بيان مشترك إن إسرائيل "مستعدة للمضي قدماً" في اتفاق التبادل باعتباره "نقطة البداية الضرورية" لـ"إنهاء الحرب"، موحين بأنه جاهز ولا ينتظر سوى ردّ "حماس". لكن المعلوم أن إسرائيل لم تعلن أي موافقة رسمية. وكانت الحركة قد أمضت أسبوعاً مكتفية بالقول إنها "تتعامل بإيجابية مع ما ورد في خطاب الرئيس الأميركي"، ومن الواضح أنها لم تجد أثراً لتلك الإيجابية في النصّ المقترح، فلا "وقف العدوان" مؤكّد، ولا "الانسحاب الكامل" مضمون، ولا "عودة النازحين إلى مناطقهم" ولا حتى زيادة المساعدات.

فعلى ماذا يُراد لـ"حماس" أن توافق؟ على المرحلة الأولى فقط (هدنة ستة أسابيع وإطلاق 33 رهينة) لتعود بعدها إلى مواجهة عمليات عسكرية واسعة تريدها إسرائيل لاستدامة سيطرتها وتدعيمها. بل يُراد من "حماس" أن تقبل بمجرّد "رهان" على أن واشنطن تتعامل مع الهدنة المرتقبة في غزّة كنقطة انطلاق لخفض التوتّر في المنطقة الشرق-أوسطية وتمرير الانتخابات الرئاسية الأميركية بهدوء.

بعد خطاب بايدن، كثّفت واشنطن تسريب تقويمات عسكرية واستخبارية قيل إنها لـ"الضغط" على إسرائيل، ومنها استبعاد أن تحقّق "نصراً كاملاً" لأن "حماس ستحتفظ بنفوذ في غزّة بعد الحرب"، إضافةً إلى نفوذها المتوسّع في الضفة الغربية، حتى أن بعض التقارير استنتج أن القضاء على القدرات العسكرية لـ"حماس" قد يسمح بالتعامل معها في إدارة شؤون القطاع. كان زعماء الدول الـ17 قد أكدوا في معرض الترويج للاتفاق المقترح أن "فيه ضمانات أمنية لإسرائيل والفلسطينيين، وفرصاً للسلام الدائم وحلّ الدولتين"، وقد جدّد بايدن الالتزام الأميركي التقليدي بأمن إسرائيل وبتوفير ما تحتاجه من أسلحة، لكن "حماس" لم ترَ "ضمانات" تتعلق بمستقبلها أو بـ"أمن غزّة" بل طالبت بها كما فعلت في كل جولات التفاوض، ولم تحصل عليها.

هذا الرهان على أميركا مطلوبٌ أيضاً من السلطة الفلسطينية، ومن الدول العربية التي طُلب من بعضها أن تضغط على "حماس"، كأن تلوّح قطر مثلاً بطرد قيادتها السياسية من الدوحة، أو أن تقطع مصر كلّ تنسيق معها، كما أنه مطلوب من الدول الغربية كافةً. مهما كانت درجة قرب هذه الدول أو بعدها عن السياسة الأميركية، فإنها لا تستطيع ادّعاء أنها مقتنعة بقدرة واشنطن على التأثير في خيارات إسرائيل التي لا تزال تفعل ما تشاء من دون محاسبة أو مساءلة.

فكل محاولات واشنطن لإظهار شيء من النقد للممارسات الإسرائيلية، الواضحة بإجرامها ومخالفتها للقوانين الدولية، كانت إمّا سطحية وبلا مصداقية كما في طلبها من إسرائيل التحقيق في بعض الوقائع الدموية (قصف مخيمات النازحين، مثلاً) أو منحازة ومشاركة في الإجرام كما في تهميشها مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.

قد لا يكون أمام "حماس" خيار آخر غير الموافقة على "صفقة التبادل" رحمةً بأهل غزّة على الأقل، وقد تكون إيران أوصتها برفض "الصفقة" والصمود أمام الضغوط ريثما تكون قد وجدت لها مخرجاً مع واشنطن، أو تكون حسمت التوجّه إلى دعمها بالتصعيد في مختلف "الساحات"، خصوصاً في جنوب لبنان. إذا كانت إيران معنيّة بإنقاذ "حماس" فربما حانت لحظة التهديد بإشعال المنطقة إذا كان ذلك في مستطاعها.

ليس سراً أن مجمل التحركات الإقليمية والدولية، سواء لدعم "حلّ الدولتين" بإقامة دولة فلسطينية أم لبناء تحالف مساند لإدارة مدنية في غزّة أم لبلورة مشاريع إعادة الإعمار، تنطلق من عدم قبول "حماس" في المشهد، لا في حكم غزة ولا في نسيج "حكومة فلسطينية جديدة" نتيجة لحوار ترعاه الصين بين "فتح" و"حماس". وقد كثرت الإشارات أخيراً إلى أن السلطة الفلسطينية قد تتعرّض لعقوبات إنْ هي سعت إلى أي نوع من التشارك مع "حماس"، ما يستبطن أن "حلّ الدولتين" إذا أمكن تحريكه أصبح مشروطاً بإقصاء كامل لـ"حماس" كي تقبله إسرائيل، ولن تقبله.