عندما تعتزم الدول الرقي إلى مستويات الشراكة الاستراتيجية، يعني أن ثمة مصالح متطابقة وذات طابع استراتيجي تستدعي التعامل معها بوسائل غير تقليدية في أطر العلاقات الدولية. ويبدو أن هذا الأمر ينطبق على العلاقات الروسية الكورية الشمالية في ظل الظروف القائمة التي تجمع الطرفين إقليمياً ودولياً، وما يعزز هذا الواقع فعلياً وعملياً التاريخ الممتد لعقود خلت، تخللها اتفاقيات تعاون في مجالات نوعية، وتبدو اليوم أكثر إلحاحاً، لما تواجهه الدولتان من تحديات تلامس قضايا ذات أبعاد تتصل بالكيان ومستقبل وجودها ودورها في نظام دولي يعج بالصراعات والتنافس الخطِر.

لقد شكلت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية، تأكيداً لحاجة الطرفين إلى تثبيت وتأكيد علاقة تميزت بالمتانة منذ نشأة كوريا بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1948، نظراً للتقارب الأيديولوجي إبان الحقبة السوفييتية، والتي استمرت لاحقاً على الرغم من المتغيرات الدولية الحاصلة، وقد تأكدت هذه الخاصية في اللقاءات الثنائية التي جمعت الطرفين في الأعوام 2000 و2024 في بيونغ يانغ و1961 و2023 في موسكو والتي توجت باتفاقات تعاون عكست بشكل واضح نوعية الحاجات المتبادلة بين الجانبين. ففي عام 2000 عكست زيارة بوتين الأولى إلى بيونغ يانغ حاجة موسكو آنذاك إلى الدعم بعد كبوة تفتت الاتحاد السوفييتي، لاسيما أن الجانبين يجمعهما عداء واضح للولايات المتحدة، والطرفان لهما مصلحة مشتركة ومتطابقة في التخفيف من سيطرة واشنطن على النظام العالمي والحد من فرض خياراتها.

وما يعزز أيضاً ذلك التطابق حالياً، وجود عوامل إضافية نجمت عن الحرب الروسية الأوكرانية التي تتطلب دعماً سياسياً وعسكرياً ولوجستياً، علاوة على العقوبات الاقتصادية المفروضة على الطرفين وبشكل قاسٍ. في الجانب الأول المتصل بالأزمة الأوكرانية، فقد استهلكت الكثير من إمكانات موسكو العسكرية والاقتصادية والمعنوية، وباتت بحاجة إلى دعم مباشر بهدف تفادي السقوط المريع، وهو هدف سعت وتسعى إليه الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف «الناتو»، الأمر الذي أسهمت كوريا الشمالية في منعه والتخفيف من تداعياته عبر الدعم العسكري واللوجستي الذي شكل رافعة في المواجهات القائمة من خلال الذخائر التقليدية والصواريخ البالستية الكورية وغيرها.

كما شكلت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها عاملاً إضافياً لرفع مستوى التعاون لمواجهة واشنطن، لاسيما أن العقوبات الاقتصادية شكلت عاملاً خانقاً في ظل اقتصاد عالمي ضاغط، علاوة على العقوبات المتصلة بالتكنولوجيات العسكرية والأسلحة غير التقليدية التي فرضت على كلا البلدين وبخاصة بيونغ يانغ.

إن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين تشكل رافعة إقليمية ودولية لزيادة منسوب التنافس في المنطقة، لاسيما أن العناصر والفواعل المستهدفة ليست عادية، مثال كوريا الجنوبية واليابان بشكل أساسي، علاوة على دول أخرى تجمعها بالولايات المتحدة علاقات تحالفية في جنوب شرق آسيا، ما يؤسس لمسارات تنافسية أخرى، لاسيما أن موسكو تحديداً عمدت في العقدين الماضيين لإنشاء وتطوير شراكات استراتيجية ذات وزن لافت في وسط وشرق آسيا كمثال الشراكة مع الصين الشعبية، واتفاقات تعاون مماثلة مع الهند والباكستان وغيرها.

إلا أن الأمر الأكثر أهمية ما أكده الطرفان الروسي والكوري في لقاء القمة، من تضمين اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة لجانب متصل بالدفاع المشترك، مفاده التدخل العسكري المباشر في حال تعرض أحد الطرفين لاعتداء خارجي، وهو ما يشكل قلقاً واضحاً لواشنطن وسيؤول وطوكيو على سبيل المثال لا الحصر، لاسيما أن السلوكيات السياسية لكوريا الشمالية على الصعيد الدولي تعتبر استفزازية وتتسم بطابع خطِر يصعب احتواء آثاره وتداعياته.

وإذا كانت الاتفاقية الموقعة بين الجانبين تعزز الدعم الكوري لروسيا في الأزمة الأوكرانية وبخاصة الدعم اللوجستي، فإن ما ستستفيد منه بيونغ يانغ هو الدعم التكنولوجي الذي يمكن أن تقدمه موسكو للبرنامج الكوري في مجال الصواريخ البالستية، إضافة إلى التكنولوجيا المتصلة بالأقمار الاصطناعية ووسائل إطلاقها، حيث أسهمت موسكو مؤخراً في تطوير تلك البرامج، وبذلك تبدو الحاجة متبادلة بين الطرفين وبخاصة في الجوانب العسكرية والتكنولوجية، وهو أمر يشكل قلقاً قوياً للولايات المتحدة، لاسيما أن كوريا الشمالية تعتمد سياسة المواجهة وحافة الهاوية في المواقف التي تصل إلى حد التهديدات المقلقة.

وعلى الرغم من أن بنود الاتفاقية هي أساساً موجودة في اتفاقية عام 1961 المبرمة بين البلدين إبان الحقبة السوفييتية، فإن الظروف المحيطة بتوقيع الاتفاقية حالياً، أشد حساسية وإمكانية في تفعيل العمل بها، فالنظام العالمي يعج اليوم بالقضايا عالية الخطورة والتي تتسم بالكثير من عوامل الانفجار، علاوة على العوامل المساعدة على إمكانية الاستثمار فيها من غير طرف إقليمي ودولي.

بالمحصلة وقعت اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين بلدين يواجهان عقوبات ومواجهات ساخنة من طرف واحد، لا يتردد في استعمال أي وسيلة للتضييق عليهما وجرهما إلى مواجهات قاسية، تبدأ بالمال والاقتصاد ولا تنتهي بالمواجهات الأمنية والعسكرية، وهي مواجهات مكلفة جداً لجميع أطرافها، الرابح فيها هو خاسر أيضاً، فهل تتعظ الأمم والدول في استثمار الشراكات الاستراتيجية الشاملة في سبيل تنميات مستدامة في دول ومجتمعات باتت أحوج ما تكون فيه إلى سلام يهدف إلى التنمية والعلاقات الودية بين أطرافها؟ * رئيس قسم العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية