الانتصارات العسكرية لا تحقق الأمن على المدى الطويل لإسرائيل، فقد حققت إسرائيل انتصارات عسكرية في 1948، 1967، 1973، وهي تشن حرب إبادة على فلسطينيي غزة منذ 7 أكتوبر 2023، دون أن تحقق الأمن المنشود، بل إنه وبالرغم من المساعدات العسكرية والاقتصادية التي قدمت لها من الدول الغربية «المتحضرة»، فإن انتصارها يعاني، كما أن استمرارية حرب الإبادة في غزة دون وضع أو إعلان هدف سياسي لهذه الحرب، سيؤدي في النهاية إلى سقوط حكومة نتانياهو. والانشقاق في رؤى وأهداف المجتمع والدولة في إسرائيل، امتدت إلى يهود العالم، خاصة يهود الولايات المتحدة. وترجع جذور ذلك الانشقاق إلى القرن التاسع عشر.

فعندما عقد المؤتمر الصهيوني في بازل في سويسرا عام 1898، أخذ الروائي والكاتب اليهودي النمساوي ستيفان زفايغ Stefan Zweig موقفا معاديا لفكر صديقه هرتزل الداعي لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وظل معاديا لتأسيس إسرائيل حتى بعد أن وصل الحزب النازي إلى الحكم في ألمانيا والنمسا عام 1933. وعندما اضطهد اليهود في المانيا، لم يهرب إلى إسرائيل، وإنما إلى الأرجنتين. ومن أشهر المعادين لفكرة اعطاء حق لليهود في تأسيس دولة في فلسطين كان الوزير اليهودي في الحكومة البريطانية إدون مونتاغو Edwin Montague الذي عارض زميله بلفور ووعده عام 1917 بتأسيس دولة لليهود. لكن مونتاغو تراجع عن معارضته بعد أن وقع في غرام سيدة صهيونية. وكان يرى أن اليهود لا يشكلون قومية. كما أن الصهيونية تنمي المشاعر المعادية لليهود لدى المسيحيين. هذا ومع أن الغالبية العظمى من اليهود في العالم أو ما يقارب %80 يكنون أنواعا متفاوتة من الولاء لإسرائيل، إلا أن نسبة الـ %20 التي ترى أنها غير مرتبطة بإسرائيل - لا سياسيا ولا عاطفيا - مرشحة للزيادة بعد 7 أكتوبر. فقد ذكرنا سابقا أن كثيرا من قياديي الاعتصامات الطلابية في الجامعات الأمريكية هم من اليهود. والأكثر أهمية هو أن هؤلاء الـ%80 من يهود العالم الذين يجدون أن دعمهم لإسرائيل جزءاً من هويتهم اليهودية، هم مختلفون، فمنهم من هو على استعداد للتضحية بحياته من أجل إسرائيل، ومنهم من لا يتعدى ولاؤه التبرع لإسرائيل. وكثيرون يعتقدون أن التبرع لإسرائيل مسؤولية الأثرياء من اليهود فقط.

وكما ذكرت في الجزء الأول من المقال، فإن لقائي مع طالبة دراسات عليا يهودية في نوفمبر 1975، ومعادية للصهيونية في جامعة ميشيغن، أدى إلى تشكل رؤية ذهنية لي جديدة نحو اليهود. كنا نسمع أو نقرأ عن يهود يساريين مناوئين للصهيونية، لكن أن نلتقيهم في حرم الجامعة، ونقرأ رفضهم للصهيونية في صحيفة الجامعة، فهذا شيء جديد. لكن أول يهودي يساري معاد للصهيونية أقرأ له بشغف كان إيريك رولو Eric Rouleau المولود في القاهرة عام 1926، والمتوفى في فرنسا في 2015. ورولو يهودي مصري بدأ مهنة الصحافة في «الجريدة المصرية» واشتهر بأنه أجرى حوارا مع حسن البنا – مؤسس حركة الإخوان المسلمين. وقد سببت أفكار رولو اليسارية مشاكل له مع الشرطة المصرية في عهد الملك فاروق، مما اضطره لمغادرة مصر نهائيا إلى فرنسا عام 1951، حيث عمل في وكالة الصحافة الفرنسية وفي صحيفة لوموند. وقام رولو بتغطية أخبار الحرب اللبنانية ولعدة سنوات منذ اندلاعها في 13 ابريل 1975. وكان رولو مقربا من ياسر عرفات، وبهذا كان منافسا لديفيد هيرست - مراسل الغارديان. وكنت أرى أن رولو أكثر عمقا بتغطيته لأحداث الحرب اللبنانية ودخول السوريين فيها من ديفيد هيرست، وقد يرجع ذلك لكونه يجيد العربية إضافة إلى الإنكليزية والفرنسية.

ومنذ اندلاع الحرب اللبنانية، كنت أقرأ بانتظام لإيريك رولو في لوموند مترجما بالإنكليزية في المانشيستر غارديان الأسبوعية. وكنت أحصل عليها من مكتبة الجامعة أو أشتريها من مكتبة تتبع الصحف البريطانية، بما في ذلك الأيكونومست وتسمى Blue Front، وتقع على تقاطع باكرد مع ستيت ستريت في مدينة آن اربر. ومازلت أذكر لقاء رولو في بيروت خلال الحرب مع المطران غريغوار حداد، الذي اقتبست منه في مقال نشرته في مجلة المسيرة التي كان تصدرها منظمة الطلبة العرب، وكان عنوان المقال: «الثورة في لبنان لماذا؟»، ولابد أن أعترف أن بعضاً من قناعاتي آنذاك كانت مبنية على العاطفة، والجهل وعدم تقدير لخوف المسيحيين في لبنان على ثقافتهم ووجودهم. لكن مازلت معجبا بوعي المطران حداد اللاطائفي وحساسيته لآلام الفقراء في لبنان. وقد ترجع حساسية المطران حداد لكونه ينتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك التي تعتبر أقلية والتي تشكل %4 من الشعب اللبناني، وينتمي إليها كذلك الروائي أمين المعلوف – مؤلف «الهويات القاتلة» – إضافة إلى أكثر من رواية شهيرة. هذا وقد دفع المطران غريغوار حداد غاليا لموقفه المساند لقوى اليسار. ومع أن سينودس الروم الكاثوليك انتخبه مطرانا لأبراشية بيروت عام 1968، لكنه عزل من المطرانية بقرار من البطريرك عام 1975. وعندما توفي عام 2015، عن عمر 91 عاما، ذكرت صحيفة الجمهورية أنه «توفي بعد صراع مع المرض الجسدي، وبعد صراع مع الأمراض المتغلغلة في مجتمعاتنا مثل الطائفية والتعصب والعنصرية والانعزالية والطبقية وغيرها».

كنت ومجموعة من الطلاب النشيطين في منظمة الطلبة العرب فرع آن آربر في جامعة ميشيغن، نقرأ يومياً تقريباً لإيريك رولو في لوموند ولديفيد هيرست في الغارديان ولجيمس ماركهام James Markham في النيويورك تايمز. وقد يرجع الفائض من الحماس بالنسبة لي لأحداث الحرب الأهلية اللبنانية كوني انتقلت إلى ميشيغن من الجامعة الأمريكية في بيروت. ومازال لي كثير من الأصدقاء في بيروت. ولم أستوعب انقسام بيروت إلى غربية وشرقية مع تحول شارع بشارة الخوري وساحة الشهداء إلى جبهة تستخدم فيها أسلحة ثقيلة لقصف مبانٍ، كثير منها أعرفه. وأذكر مرة أنه عندما فتحت التلفزيون على محطة NBC، وإذ أكتشف أن جون أندروز – أستاذ اللغة الإنكليزية في الجامعة الأمريكية والذي درس على يديه كثير من الطلبة الكويتيين – أصبح مراسلا لمحطة NBC، وكان ينقل أخبار القتال من مناطق قريبة من ساحة الشهداء. ومن نتائج هذا الفائض من الحماس لأحداث الحرب اللبنانية، أن تدهور أدائي في الدراسة. فأن تقرأ النيويورك تايمز و لوموند مترجمة للإنكليزية والغارديان، وتتناول العشاء، وأنت تشاهد القصف والقتال في شوارع بيروت على التلفزيون يقلل من قدرة الدماغ على التركيز على الهندسة والرياضيات والاقتصاد. فقررت أن أستفيد من أحقيتي بتذكرة طائرة من الملحق الثقافي الكويتي بأن أسافر إلى الكويت لكوني لم أسافر في الصيف للكويت. هذا في الوقت الذي كان فيه بعض أصدقائي قد خططوا للسفر إلى كاليفورنيا في عطلة الكريسماس، لم أستطع التخلي عن التفكير بأن أرجع إلى الكويت عن طريق بيروت.

وبعد أن تمكنت من تحويل التذكرة إلى بيروت ثم الكويت عبر لندن، أخبرت بعض الأصدقاء اللبنانيين بذلك، وأرسل أحدهم معي مبالغ نقدية لأهله. وغادرت إلى لندن حوالي 21 ديسمبر 1975، وفي لندن عرفت أن مطار بيروت قد أغلق، فتوجهت إلى باريس لأن طيران الشرق الأوسط له أكثر من رحلة إلى بيروت من باريس، حيث سكنت في فندق رخيص قرب المطار، وكنت أتردد على المطار يوميا ولثلاثة أيام ولم يفتح مطار بيروت، فحولت التذكرة إلى الكويت عبر مطار فرانكفورت. وكانت مدة الانتظار طويلة في فرانكفورت. وفي المطار، تعرفت على قيادي من الاتحاد الاشتراكي - التنظيم الناصري - من عائلة جلول ومع زميل أصغر منه عمرا ومركزا. وبعد الحديث تكونت ثقة متبادلة، وعرفت منهما أنهما غادرا بيروت منذ أيام إلى مدريد لإحضار أدوية، وأنهما عائدان بالطائرة الى دمشق ثم بالسيارة لبيروت. وسألتهما كيف نصل بيروت والطريق من عالية إلى الكحالة مغلق كونه أصبح جبهة قتال. فأخبراني أن هناك طريقاً آمناً يمر عبر عرمون. وشجعاني أن أنضم معهما في رحلتهما لبيروت. وفعلا توجهنا بالطائرة إلى دمشق ثم أخذنا سيارة إلى بيروت، وكان معنا معلمة جزائرية لم أعرف سبب سفرها لبيروت في هذه الظروف.

وصلنا إلى بيروت عبر عرمون بسلام، ولم نواجه أي حواجز ولا تفتيش، كان ذلك في الأسبوع الرابع من شهر ديسمبر 1975. واستضافني القيادي في تنظيم الاتحاد الاشتراكي في بيته في المصيطبة، وقدمت لنا السيدة الفاضلة والدته طعام الفطور. ولاحظت أن منزل صديقي من الاتحاد الاشتراكي يقع قريبا من «طلعة شحادة» التي كان يسكن فيها صديقي اللبناني السوري الغزاوي سبحان مراد. وبعد الفطور والشاي، أخذني صديقي من بيت جلول إلى مواقع عسكرية متقدمة للتنظيم الاشتراكي، أهمها موقع التنظيم في فندق فينسيا الذي تم تحريره منذ أسابيع قليلة. وأذكر أنه عندما وصلنا إلى موقع متقدم في الفندق، سمعت أصواتنا في فندق هوليدي إن، فانطلق علينا وابل من الرصاص كانت أكياس الرمال تمتصه. بعد زيارتنا لمواقع التنظيم في الفينسيا، توجهنا للمشاركة في جنائز بعض أفراد التنظيم الذين استشهدوا في الأيام الأخيرة. ولا بد أن أرجع قليلا إلى الوراء وأسترجع الحديث بيني وبين الشاب اللبناني الذي كان مرافقا للقيادي الناصري، فعندما جلس بقربي في رحلة الطائرة من مطار فرانكفورت إلى دمشق، علمت منه أنه أكمل البكالوريا ولم يدخل الجامعة بعد. ومعظم حديثه كان عن جولاته في مدريد حيث ذهب لشراء أدوية. وأبدى إعجابه بمدريد وكانت أول مدينة أوروبية يزورها، لكنه أسر لي أنه عرف فتاة أسبانية لا يستطيع التوقف عن التفكير بها، و كان مغرما بعيونها السوداء وابتسامتها الساحرة، وعندما سألته: هل تتمنى أنك بقيت في مدريد؟ فتهرب من الجواب.

وفي نفس يوم وصولنا استأذنت صديقي الكريم من بيت جلول وانتقلت إلى فندق مَيْ فلور May Flower والذي يقع على شارع البصرة الصغير الموازي لشارع الحمراء، والمشهور بمطعمه المسمى ديوك أوف ولنغتون. واكتشفت أنه قد افتتح مقابله وبجوار فندق نابليون مقهى يلتقي فيه الصحافيون الأجانب. وفي أول مساء لي في هذا المقهى التقيت أستاذنا جون أندروز الذي شاهدته منذ أسابيع على شاشة التلفزيون من آن آربر في ميشيغن ينقل أحداث الحرب من بيروت على محطة الـ NBC. فرح جون - الذي يعرفه الطلبة الكويتيون جيدا - بتواجدي، وإن كان قد استغربه، وكان صريحا وودودا وفرحا لتواجدي. وسألني عن أصدقائي الكويتيين: شبابا وبناتا، واعترف لي «كنا نظنك مشاغبا بعض الشيء، لكن عندما أخذتم امتحان القدرات كنت من الأوائل، لذلك سمحنا لك وللمياء حيات أن تأخذا بعض كورسات السنة الأولى أثناء تسجيلكما في برنامج اللغة». وبعد سنوات نالت الزميلة لمياء الدكتوراه في الكيمياء الحيوية من لندن ثم اصبحت أستاذة في جامعة الكويت.