فصل الصيف يبدأ في النصف الثاني من شهر يونيو (حزيران)، وفق الروزنامة الطقسية. لكن في الروزنامة السياسية تتداخل الفصول، وتنمحي الحدود بينها، وعلى سبيل المثال، ينقلب الربيع العربي فجأة خريفاً برياح وعواصف هوجاء تقتلع ما يصادفها.
في بريطانيا، هذا العام، بدأ الصيف السياسي، قبل نظيره الطبيعي، وتحديداً لدى إعلان رئيس الحكومة، ريشي سوناك، في شهر مايو (أيّار) المنصرم عن موعد الانتخابات النيابية.
هناك قاعدة عامة، يمكن للمتابع للساحة السياسية البريطانية استخلاصها من خلال ما مرّ به من تجارب انتخابية سابقة عاصرها. وهي أنّه كلما تناقصت المسافة الزمنية التي تفصل الناخبين عن التوجه إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم؛ ترتفع درجات الحرارة، سياسياً وإعلامياً، بدرجة ملحوظة، كمن يُوقد فجأة عدة أفران في وقت واحد، تُضاف إلى ما يشتعل من أفران في صالة صغيرة الحجم.
ولأن لكل قاعدة استثناء، فإن انتخابات هذا العام قد تكون استثناء لافتاً، بمعنى أن حزب المحافظين الحاكم، على غير العادة، بدا كأنه فَقَدَ شهيّته للصدام. أو كأنّ قادته وكوادره قد رفعوا الراية البيضاء عالياً، قبل بدء المعركة؛ فما الذي حدث؟
أسباب عديدة تقف وراء ذلك، أجدرها بالإشارة الكارثة الاقتصادية التي سبّبتها رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، خلال فترة ولايتها القصيرة جداً. وقبلها، ما صارت تُعرف بـ«فضيحة الحفلات» Party gate، التي كانت تُقام في مقر رئيس الحكومة السيد بوريس جونسون، خلال أزمة الوباء والإغلاق العام، ومنع التجمع. مضافاً إليها فشل حكومات المحافظين المتتالية في وقف قوارب المهاجرين غير القانونيين القادمين من الضفة الفرنسية إلى القنال. زِد على ذلك العديد من الفضائح الأخلاقية والفساد المالي. وكل ذلك سلب من المحافظين ثقة الناخبين، خصوصاً أن وعود «بريكست» لم تأتِ بالمرجو منها، وازدادت الأمور سوءاً باتساع هوّة الانقسام داخل الحزب، بين المعتدلين والمتشددين.
ولعبت استطلاعات الرأي العام دوراً غير عادي هذه المرّة، كون نتائجها المتتالية سارت على نمطية لم تتغيّر منذ مجيء سوناك إلى الحكم. وكل استطلاع جديد تنشر نتائجه وسائل الإعلام لا يختلف كثيراً عن سابقه أو لاحقه؛ إذ حافظ حزب العمال المعارض على مركزه المتقدم بين الناخبين، كما حافظ على الفارق الكبير (قرابة 20 نقطة) الذي يفصله عن المحافظين، وهو أمر غير مسبوق على حدّ علمي. وأخيراً وليس آخر، العودة غير المتوقعة لنايجل فاراج الرئيس الشرفي لحزب الإصلاح بالمملكة المتحدة. نايجل فاراج بعد أن أعلن عدم عزمه على خوض الانتخابات غيّر رأيه، وتسلّم رئاسة الحزب فعلياً، وبدأ خوض المعركة الانتخابية سريعاً. تلك العودة هدّدت بانقسام أصوات اليمين. أي إن حزب الإصلاح سوف يستقطب ملايين الناخبين ممن صوّتوا في الانتخابات السابقة لحزب المحافظين.
آخر الاستطلاعات للرأي العام أجرته صحيفة «الديلي تلغراف» القريبة جداً من حزب المحافظين، خصوصاً تياره الشعبوي المتشدد، ونشرت، يوم الخميس الماضي، أخباراً كارثية للمحافظين. إذ تنبّأت، من خلال استطلاع للرأي العام، بفوز حزب العمال بأكثر من 500 مقعد، من مجموع 635 مقعداً في البرلمان. والأسوأ أن العديد من قادة الحزب والحكومة، ومن ضمنهم رئيس الحكومة ووزير الخزانة، قد يخسرون مقاعدهم! وهو أمر غير عادي بالمقاييس كافّة، ودفع بالمعلق السياسي الساخر «توم بيك» في زاويته اليومية بصحيفة «التايمز» المقرّبة من المحافظين، إلى تقديم اقتراح إلى رئيس الحكومة سوناك بالبقاء في البيت والاكتفاء بمشاهدة مباريات البطولة الأوروبية لكرة القدم التي تُجرى هذه الأيام في ألمانيا.
وهذا يعني أن هناك احتمالاً كبيراً في أن نكون من المحظوظين، الذين ستشملهم قائمة شهود العيان، ممن أتاحت لهم الظروف أن يعيشوا لحظة تاريخية استثنائية أخرى، في التاريخ السياسي البريطاني، تُضاف إلى قوائم ما شاهدناه في السنوات الأخيرة، من أحداث بريطانية، في فترة لا تزيد على عقد ونصف العقد من السنين، وعُدّت -باعتراف الجميع- تاريخية، ابتداءً من استفتاء «بريكست» وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مروراً بأزمة الوباء الفيروسي، والزلزال الاقتصادي الذي أحدثته ليز تراس، وأخيراً، إذا صدقت تنبؤات استطلاعات الرأي العام، تقلّص وربما اضمحلال حزب بريطاني عتيد، قاد بريطانيا عقوداً طويلة، الأمر الذي يُذكّرنا بالمصير الذي انتهى إليه حزب المحافظين في كندا.
فهل تصدق استطلاعات الرأي العام، ويفقد المحافظون مقاعدهم في البرلمان وبالجملة، ويتوارون عن الأنظار، في غياهب النسيان، عقوداً زمنية طويلة؟ وماذا لو أخطأت تلك الاستطلاعات التقييم والتقدير، كما حدث سابقاً؟ وهو احتمال ضعيف على أي حال، كما يؤكّد المعلقون.
وهل هذه المحنة تخصّ حزب المحافظين البريطاني فقط، أم أنّها تشمل العديد من الأحزاب التقليدية في الغرب، التي تولّت مقاليد الأمور في بلدانها بعد الحرب العالمية الثانية؟
ربما نضطر إلى الانتظار مدة زمنية طويلة نسبياً لمعرفة الجواب عن السؤال الأخير. لكن المحافظين البريطانيين -لحسن حظهم- لن ينتظروا طويلاً لمعرفة مصيرهم.
التعليقات