إذا ما أردنا أقرب تعريف لمفهوم التراث.. يمكن القول بأن التراث يشبه في الحضارة بجذور الأشجار الضاربة في عمق التربة؛ ويكون تراثاً قوياً وقادراً على مواجهة تغييرات الزمن كلما كانت تلك الجذور متعمقة ومتفرعة وتغوص أكثر فأكثر في عمق الأرض.. وبمفهوم آخر لتعريفه يطلق على التراث تلك الخلاصة التي يخلفها جيل ما؛ مضى وذهب لجيل حالي بحيث يمكن من خلال تلك النقلة استخلاص العبر من الماضي؛ ويكون نهجا يقبل على دراسته الأجيال المتعاقبة ويستزيدوا خبرة من دروسه؛ ليعبروا بتلك الدروس والأفكار من حاضرهم إلى مستقبلهم..

والمملكة أرض تملك ثراء بتراثها لا يدانيه ثراء.. يتميز بتنوعه وغناه الزاخر وهذا التراث المتفرد إنما هو مرآة لحضارات عتيدة قامت وازدهرت على أرضها المعطاء.. وكانت تعبر عن الإنسان الذي سعى سعياً حثيثاً لتكون له هويته الوطنية المميزة..

ومن هذا المنطلق الحضاري لقيمة التراث جاء احتفاء المملكة واهتمامها البالغ لهذا الإرث الثقافي الثري، حيث أطلقت وزارة الثقافة مشروع هيئة التراث؛ وهي واحدة من الهيئات الثقافية الـ 11 التي أسستها وزارة الثقافة للنهوض بتنمية القطاعات؛ وتعزيز كل ما من شأنه دعم تراث المملكة الوطني؛ ورفده بكل أساليب الحماية؛ ورفع مستوى الوعي والالتفات للعناية به؛ فضلاً عن تطوير قطاع التراث ودعم القائمين عليه وممارسيه..

وأعلن عن تأسيس هيئة التراث مع بقية الهيئات عام 2020م.. لها استقلالية مالية وإدارية وميزانية سنوية ضمن ميزانية وزارة الثقافة؛ ولها ارتباط مباشر بوزير الثقافة.. كما يمتلك موظفوها أحقية نظام العمل والتأمينات الاجتماعية.. وهيئة التراث لها رئيس تنفيذي يتم تعيينه وإعفاؤه من منصبه بقرار من مجلس الإدارة الذي يرأسه شخصياً وزير الثقافة؛ كما يكون مديرها التنفيذي مسؤولاً عن إدارة شؤون الهيئة؛ أما مجلس الإدارة فهو الذي يتولى الإشراف على مشروعات الهيئة والخطط التي يضعها والإستراتيجيات الواجب تنفيذها وكافة الأهداف التي يتحتم تحقيقها.. أما شعار الهيئة فقد صمم وفق زخارف عربية مستوحاة من زخارف السدو في إشارة إلى عمق تراث المملكة العربية السعودية الموغل بالأصالة؛ وهذا إن دل على شيء إنما يدل على إبداع المصمم السعودي الذي يستوحي إبداعه من رقي ثقافته..

وعن مهام هيئة التراث فإن أبرز ما تنفذ من مهام: العناية بتنمية التراث الوطني ورفع مستوى الدعم وتعزيز الجهود للحفاظ عليه والوعي بقيمته والعمل على حمايته من تقلبات الزمن ومن الاندثار.. إقامة المؤتمرات والفعاليات والمعارض المحلية والدولية بهدف تسليط الضوء على ثراء تراث المملكة وتمكين تواجدها في المنظمات والهيئات والمحافل الإقليمية والدولية.. السعي الحثيث لإنشاء قاعدة بيانات تخص قطاع التراث ويتم من خلالها الاهتمام بالأنشطة وتسهيل التراخيص التي تنهض بمستوى عمل الهيئة.. وتحفيز المؤسسات والشركات انطلاقاً من الأفراد على إنتاج المحتوى الهادف وتشجيعهم على الإبداع في قطاع التراث والعمل الدائم على تطويره وتقديم الأفضل في مجاله..

ولهيئة التراث 8 ركائز تشكل بمجملها إستراتيجيتها التي أطلقتها في سبتمبر عام 2021م والركائز الثمانية هي: العناية والحماية القصوى للحفاظ على المواقع الأثرية والتراثية التي تشكل الثروة الثقافية للبلاد وإدارتها بمنتهى الفعالية.. دعم المواهب وتعزيز تنميتها والاهتمام البالغ بالأبحاث التي تختص بالتراث.. إدخال أحدث التقنيات الرقمية تطوراً وجعلها تحت خدمة القطاع التراثي لإثرائه.. تسهيل إصدار التراخيص ووضع اللوائح والأنظمة الملائمة لذلك.. تعزيز توأمة القطاع العام والخاص ودعم العمل بينهما على نطاق واسع وشامل.. دعم الوكالات الدولية والإقليمية وتوفير التمويل لسهولة العمل دون عوائق.. الاهتمام بنشر الوعي الثقافي الخاص بالتراث لدى الجمهور والإنسان السعودي لتمكينه من البحث واستكشاف قيمة تراثه الغزير والثري.. وعقد الشراكات على المستويات المحلية والعالمية للتعريف بتراث المملكة ورقيه..

وفيما يتعلق بمبادرات هيئة التراث فقد أطلقت الهيئة حزمة من المبادرات الهادفة منها: مبادرة «المكتشف الصغير» والغاية دمج الأطفال ومشاركتهم في البحث والتنقيب عن الآثار في المملكة؛ إضافة إلى زيادة الوعي لجميع الفئات العمرية الصغيرة بأهمية البحث والتنقيب عن الآثار وبهذا تكون المشاركة المجتمعية في أعلى مستوياتها لصون وحماية التراث الوطني؛ إطلاق برنامج «مسرعة أعمال هيئة التراث» وذلك لمساعدة وتمكين رواد الأعمال وتقديم الدعم الكامل للشركات التي نشأت حديثاً في قطاع التراث؛ إضافة إلى مبادرة رائعة «نقوش السعودية» وغايتها التأكيد على أهمية دور الأفراد في إحياء التراث الوطني الذي يختص بفنون النقوش والأعمال الصخرية..

أما إنجازات هيئة التراث فكلها رائعة وترفع لها القبعة وعلى سبيل المثال لا الحصر: أطلقت الهيئة بالمشاركة مع «مهارات Google» برنامج تدريبي هادف «مهارات التسويق الرقمي للحرفيين» وكان عدد المستهدفين 2000 حرفي وحرفية وهذا من أقوى البرامج التعليمية التي تقدمها هيئة التراث باستمرار؛ إضافة إلى إدخال التقنيات الحديثة بهدف تنفيذ البرامج والمبادرات؛ ناهيك عن المنح الدراسية التي تقدمها دعما للموهوبين وكل ذلك تدعمه وزارة الثقافة منذ انبثاقها؛ ولعل المنصة الإلكترونية الموحدة للابتعاث الثقافي الخارجي تأتي على رأس أهم إنجازاتها..

ولعل بعض الاكتشافات في مجال التنقيب ضمن تراث المملكة الزاخر أسفرت عن نتيجة مهمة جداً بالقدم الموغل بالزمن لوجود الإنسان على أرض الجزيرة العربية؛ وأهم تلك الاكتشافات بحيرة قديمة جافة على أطراف منطقة تبوك؛ كما تم العثور من قبل فريق علمي سعودي على منشآت حجرية في صحراء النفوذ في المملكة تدل على أنها من أقدم المصايد الحجرية للحيوانات، حيث يعود تاريخها لما يناهز 7000 سنة..

وفي عام 2023 أعلنت هيئة التراث عن اكتشافات مهمة جداً في أغلب مناطق المملكة وهذا إن دل على شيء إنما يدل إلى عمق الحضارات المتعاقبة على أرض المملكة عبر الزمن الغابر وعلى مدى قرون طويلة؛ وأهم تلك الاكتشافات كانت في منطقة القصيم، حيث تم توثيق نقشين قد كتبا بالخط «الداداني» أحدهما أقدم من الثاني على واجهة صخرتين ضخمتين في المنطقة الأثرية «الدليمية» التابعة للقصيم؛ كما أعلن عن اكتشاف «موقع حليت الأثري» من العام نفسه في الرياض بمنطقة «الدوادمي» وهو أحد المواقع التي استخدمت في العصر الأموي لما يخص التعدين ويملكه وقتذاك أبناء نجاد بن موسى بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لذلك عرف «معدن النجادي»..

ويبقى هذا الزخم المترف من الاكتشافات والمسح الأثري يدل بما لا يدع مجالاً للشك في تاريخ المملكة الموغل بالقدم وعبر حضارات رسمت أثرها في مرآة التاريخ؛ وما كانت لتكون تلك الاكتشافات لولا هيئة التراث وسعيها الحثيث في إبراز تراث المملكة وعمقه التاريخي..

تلك الهيئة الرائعة التي وجدت استكمالاً لخطط الرؤية العظيمة رؤية المجد والفخار 2030 والتي وضعت المملكة بمقدمة الدول في كافة المجالات تقنياً وحضاريا إقليمياً ودولياً؟