من القرارات الصائبة، التي جاءت من إرادة عليا، أسعدت الشعب الكويتي بجميع طوائفه، ذلك القرار القاضي بتبديل أسماء الشوارع، التي انتشرت حاملة أسماء شخصيات، معظمها لا تحمل ملفاتها إنجازاً غير اعتيادي، ولا مبرر لتسجيل أسمائها على لوحة التقدير، التي نراها في شوارع الكويت، وفوق ذلك، زادت من مسببات الضياع في الشوارع بحثاً عن مكان هذه الأسماء.

نقرأ عن أسماء لا علاقة لها بمسيرة الكويت، لم تأتِ بشيء غير عادي، لم تبدع في علم الاكتشاف، ولم تقد حملات عسكرية محفورة بتاريخ الكويت، وإنما تواجدت في شوارع الكويت من مجاملة وضغوط، وربما من وسائل أخرى.

لكن الأهم ما في قرار الأرقام أنه يريح الكويتيين، ويسهل عليهم التعرّف على المكان، متحاشين الارتباك وضياع الوقت، وفوق ذلك، وجدنا أسماء تسطع في شوارع الكويت، لا علاقة لها بالكويت، ولم تدخل تاريخها، ولم يدون اسمها في سجل الزيارات، وهي لا تعرف شيئاً عن أهل الكويت، ماضيهم وحاضرهم، وإنما وصلت إلى الكويت محمولة من جهات تعرّفت على هويتها من زيارات لبلدانها، رأت فيها تجسيداً لمشروع يستهوي هذه الشخصيات الكويتية، ومن هذه الحالة يبرز شارع حسن البنا في الرميثية حالة معبّرة عن هذا الواقع، وهو زعيم الإخوان في مصر، ليس من الخلفاء الراشدين، ولا علاقة له باتساع الفتح الإسلامي، وفوق ذلك، يبقى اسماً مثيراً للخلافات والجدل التاريخي.

ورغم الابتهاج بإزالة الأسماء من الشوارع، سنواجه نحن سكان السرّة غياب البريق التاريخي، الذي يشعله اسم طارق بن زياد، فاتح الأندلس عام 712م، تولد من عبور البحر بمراكب وفّرها له حاكم طنجة الأسباني، الذي كان على خلاف حاد مع ملك أسبانيا، فوافق على تسهيل المهمة في توفير أسطوله للعبور مشترطاً إعادتها بعد العبور.

والحقيقة أن مالك السفن هو حاكم طنجة الأسباني، الذي استولى على طنجة بعد انسحابه من حروبه مع حاكم الجنوب الأسباني، وكان عازماً على العودة إلى العرش عند اكتمال الاستعدادات، ولذلك وافق على طلب طارق بن زياد للاستعانة بالسفن، التي يملكها ضامناً عودتها إلى طنجة.

المهم أن طارق بن زياد تفوّق في كفاءته العسكرية كقائد إسلامي، مسيطراً على أصعب المواقع في جنوب أسبانيا، مؤمناً بأنه حمل نور الإسلام إلى التربة الأوروبية، وحافراً اسمه وإنجازاته في سجلات التاريخ الإنساني.

كما سجل التاريخ إطلاق اسم طارق بن زياد على الجبل، الذي اختاره لينزل مع قواته من ظهر السفن إلى التراب الأوروبي، ومنها انطلق اسم جبل طارق في خرائط العالم، ومحدداً الموقع الجغرافي الذي اختاره، حاملاً الإسلام بنوره وقيمه إلى الساحة الأوروبية.

ذهب طارق بن زياد إلى أرض لا يعرفها، على مراكب لم يتآلف معها، متجهاً إلى نقطة نزول لم يرها، واختار مجموعة قتالية معظمها من طائفته، تسمهيم أوروبا البربر.

نزل طارق وجيشه، الذي سجل التاريخ أعدادهم بين سبعة وعشرة آلاف، فلا توجد دقة في الأعداد، ونزل في المنطقة التي سميت جبل طارق، وهي جبلية سواحلها ضيقة، زرتها منذ سنوات، فيها شارع واحد، معظم سكانها من أصول هندية، يعملون في شارع واحد ضيق مملوء بالبضائع المصنوعة محلياً.

حقق طارق بن زياد النصر، هكذا يقول التاريخ، ويتوقف التاريخ عما حدث بعد الانتصار.

كان طارق بن زياد تابعاً للقائد العربي العام، موسى بن نصير، الذي أصابته الغيرة، شاعراً بأن هذا المملوك تحصّن اسمه في التاريخ الانساني، وبدأ يخطط للتخلّص من ابن زياد، فقد زاد من روعه انتشار النصر ليصل إلى الخليفة الوليد بن عبدالملك في دمشق، فتنطلق مواكب الاحتفالات.

تبقى الحقائق التي سجلت من قبل المؤرخين في أوروبا، تختلف دراماتيكياً عن سجلات العرب حول فتوحات طارق وحول مصيره، وفوق ذلك، يتحدث التاريخ الذي صاغته الاجتهادات العربية عن أهم واقعتين، الاولى تسجيل خطبة طارق بن زياد أمام جيشه، وهي خطبة عصماء درسناها في المدارس حفظناها عن ظهر قلب، متفاخرين بمحتواها ومعجبين بتأثيرها على الجنود، ومتسائلين عن فصاحة القائد البربري، ومرددين بكل فخر بلاغة الخطاب وسحره على المستمع وعلى القارئ وعلى موقعه في التاريخ الانساني، بالإضافة إلى التشبيهات بأنهم الجنود في دائرة اللئام، مشيراً إلى ما يمكن ان يتعرضوا له من هؤلاء الإفرنج، مجدداً المخاوف بأن البحر العاصف من ورائهم والعدو أمامهم، وليس لهم مأوى سوى النصر، هذه خطبة يقولها من يملك ذخيرة واسعة في اللغة وفي المعاني، وله دراية في شد حيل الجنود وتعريفهم بما سيواجهون من مصير مجهول.

والحقيقة أن من يقرأ الخطاب المصيري، الذي نسب للقائد طارق بن زياد، لا يمكن له أن يصدق بأن هذا الخطاب بما فيه من جمال المفردات وعلو الأسلوب، أن يصدر من واحد من الأقليات البربرية، لم يتحدث العربية إلا في حدود جمعها، خلال الفترة التي وصلت الجيوش العربية إلى شمال أفريقيا قادمة من المشرق، يقودها موسى بن نصير وآخرون من قادة الجيش الأموي.

لا توجد في الكتب المترجمة إلى الانكليزية أية إشارة إلى هذه الملحمة، التي لصقت بالقائد طارق بن زياد، وستبقى هذه الحالة من التساؤلات عن صدق ما نسبه العرب إلى بلاغة وفصاحة القائد، الذي عرف توظيف هذه الخزينة من جمال اللغة، ليطلقها في ظرف مصيري يحفز فيه الجنود، وأكثرهم من قبائل البربر، لا يقيمون فعاليتها، ولا يتناغمون مع معانيها.

والموضوع الآخر ما تم نسبه إلى طارق بن زياد عن قراره بحرق السفن، لكي يدرك الجنود أن لا أمل لهم بالعودة عبر البحر، فلا توجد أساطيل تحملهم، وله خيار واحد للبقاء وهو النصر.

والحقيقة أن مالك السفن هو حاكم طنجة، وكان عازماً على العودة عند اكتمال الاستعدادات، وسمح للقائد، الذي سينقل الإسلام إلى شبه جزيرة أسبانيا، بالغزو ليقضي على جيوش خصومه.

المهم في موقع طارق بن زياد في التاريخ العربي والإسلامي برز كقائد احتل أصعب المواقع في الجنوب الأسباني، لكن بعد صفحات المجد، التي سجلها التاريخ عن قيادته للجيش الإسلامي، لا يدوّن التاريخ شيئاً عن حياته بعد عودته إلى شمال أفريقيا، ولا يوجد كتاب ينقل الحقائق عن حياته بعد الشهرة، وكل ما وجد من صفحات عن سوء معاملة موسى بن نصير له، بما فيها تعرّضه للإهانة والضرب، ومدى صحة وجوده في دمشق، وما حدث له هناك، فلم يأتِ التاريخ عن شيء حول تفاصيل حياته في عاصمة الأمويين.

سنفقد الاسم، الذي ما زال يتلألأ في التاريخ العربي والإسلامي، لكن الشارع دون اسم طارق بن زياد سيفقد اللمعة الدائمة، وسيختفي استذكار المخزون التاريخي، الذي تحمله اللوحة، التي لن تشع علينا بقوة عن فصول من حياة ذلك القائد العظيم في انتصاراته، الذي أثار غيرة الآخرين، ففرضوا عليه حصاراً وعزلة بدلاً من المجد والتعظيم، كان نصيبه التجاهل والتصغير.

سيغيب عن شوارعنا نحن سكان السرة البطل العظيم طارق بن زياد، الذي ظل في جوارنا عقوداً من الزمن، ويقال إنه قتل في دمشق في قصر الخليفة العنصري سليمان بن عبدالملك غيرة وحسداً، كما يقال إنه عاش قبل وفاته متسولاً في أحياء دمشق.

عبدالله بشارة