لتوني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق (حكم 1997–2007)، الذي استعانت به إحدى حكوماتنا، لوضع خريطة طريق اقتصادية، ورمت بتوصياته تالياً في «سلة.. النسيان»، له رأي مهم في رئيس الوزراء السنغافوري الراحل لي كون يو (حكم 1959–1990)، الذي حوّل سنغافورة من مجموعة مستنقعات لا تزيد مساحتها على 600 كم²، لا تصلح إلا لصيد الأسماك، إلى واحدة من أفضل دول العالم، وستستمر في ذلك بسبب قراراته، التي يعتقد بلير أن لثلاثة منها أعظم الأثر على حياة شعبه، وسبب كل تقدمها غير المسبوق، أولها الإصرار على اعتماد اللغة الإنكليزية لغة الدولة الوحيدة، ورفض كل الاعتراضات، وكان لقراره أبلغ الأثر في تقدم الدولة، فقد فتح أمامها أبواب المعرفة، وسهل التواصل مع الغير، كونها لغة العلم والتقدم والمعرفة، وحتى القوة الاقتصادية والمالية والنفوذ السياسي، فمن يتقنها يتقن طريقة تفكير شعوب أكثر دول العالم تقدماً.

وثاني تلك القرارات، الإصرار على جلب أفضل أصحاب الأفكار الرأسمالية من أي مكان في العالم، حتى لو كانوا بريطانيين، وتجاهل كل المطالبات بضرورة الاستعانة بالخبرات الداخلية. واليوم تعتبر سنغافورة دولة مصدر للخبرات المالية.

وثالث القرارات، وأهمها، اعتماد «درجة الصفر» في التهاون مع الفساد، فلا مجال لقبوله، من خلال وضع أقصى العقوبات على المخالفين، ومنح القيادات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، أعلى الرواتب في العالم، لمنع انحرافهم.

وهذه المبادئ وغيرها خلقت دولة هي الأفضل والأولى عالمياً في عشرات المجالات العلمية والأخلاقية والاستثمارية والاقتصادية والتعليمية، بالرغم من أن مساحتها لا تزيد على 734 كم²، وعدد سكانها بالكاد يبلغ 5.5 ملايين، ومتوسط العمر فيها من الأعلى في العالم!

* * *

لا شك أن الأمور الثلاثة، التي ذكرها بلير حيوية، وواجهت دول عدة التحديات نفسها، وكنا إحداها، لكن معوقات كثيرة حدّت من القدرة على تطبيقها. فقد فشلنا، حتى الآن، في اعتماد الأرقام العربية (أي 123456789) رسمياً دون غيرها، في كل مقررات مدارسنا، ومراسلاتنا، والإصرار على استمرار استخدام الأرقام الهندية، فكيف يمكن في مثل هذه الظروف الحديث عن استخدام الإنكليزية بتوسّع أكبر، دع عنك اعتمادها كلغة رسمية، وغالباً لأسباب دينية غير صحيحة، وأن ذلك سيضعف أبناءنا! وهذا كلام لا يستند لأي بحث علمي، فإيمان خريجي المدارس الأجنبية في الكويت وغيرها ليس اقل من إيمان غيرهم. كما أن إيمان الشعوب غير الناطقة بالعربية، وعددهم أكثر من ضعفي العرب، ليس بأقل من إيمان الناطقين بالعربية.

كما عارضت الإدارة الحكومية، في فترة طغيان القومية، وبعدها طغيان الأصولية، التوسع في استخدامات الإنكليزية، وتدريسها بالعنف نفسه، الذي عارضت فيه الاستعانة بأصحاب العقول الرأسمالية الأجنبية، بحجة أن عقول أبنائنا أولى بالاهتمام، وقمنا فوق ذلك بعملية توطين أو «تكويت» متسارعة وغير منطقية، كان لها الدور الأكبر في تخريب وإفساد الإدارة.

أما في ما يتعلق بمحاربة الفساد، فحدّث ولا حرج، فهو السرطان الذي ضرب كل أو معظم مناحي الحياة في الإدارة الحكومية والمدرسة والمسجد والشارع والديوانية!

إن الاقتداء بمبادئ «لي» ليس بالأمر المستحيل، وبإمكان حكومتنا فعل الكثير، واللحاق بالآخرين. ما يتطلبه الأمر، العزيمة والاستفادة من خبرات الغير، والعمل ليل نهار، وارتداء الوزراء الكاب والتي شيرت! غير هذا «سلامتك»!

أحمد الصراف