كشفت الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي أجريت يوم الجمعة الفائت عن مكامن خلل سياسي كبير في إيران يتفاقم عاماً بعد عام. فنسبة المشاركة كانت مفجعة إذ لن تتجاوز 39.9 بالمئة من عدد الناخبين، وذلك على الرغم من الدعوات الواسعة والمكثفة التي قام بها

أركان النظام الإيراني لتحفيز الناخبين على المشاركة.

وكانت للمرشد علي خامنئي اطلالات بارزة دعا فيها الى المشاركة في الانتخابات المبكرة التي تقررت في أعقاب وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي جراء سقوط مروحيته في 19 أيار (مايو) الماضي. ولعل المشاركة المتدنية للدورة الأولى هي الأكثر فداحة كونها سابقة في تاريخ الانتخابات الإيرانية منذ تأسيس "الجمهورية الإسلامية" في ايران عام 1979.

وهي تعكس بطبيعة الحال مسألتين مهمتين للغاية: الأولى أن قسماً كبيراً من المجتمع الإيراني لم يعد يرغب في الاحتكام الى صناديق الاقتراع، حتى لو اقتصر الطموح على تغيير ضمن آليات النظام الثوري، قواعده وسقوفه. والثاني أن كلا التيارين الكبيرين، المحافظ الأصولي الذي يعتبره المرشد علي خامنئي عماد النظام، والإصلاحي المعتبر أنه خارج من صلب النظام نفسه ويحرص أركانه على المشاركة في اللعبة ضمن قواعد وحدود النظام وقرارات المرشد، كلاهما يبدوان من خلال نتائج الدورة الأولى في طريقهما الى التهميش التدريجي والبطيء جداً ضمن الخط الواسع للمجتمع الإيراني. فنسبة المشاركة الهزيلة تفسر في مكان ما ضعف قدرة أركان النظام وعلى رأسهم المرشد على إقناع الناس بالتوجه الى صناديق الاقتراع تلبية لـ"تكليف" واضح هدفه إظهار قوة وشرعية النظام الثوري للداخل والخارج على حد سواء. كما توضح تراجع التعويل على الإصلاحيين لإحداث تغيير متدرج وسلمي في البلاد.

لكن ومنذ أن اختار المرشد الأعلى إبراهيم رئيسي ليخلف الرئيس الإصلاحي حسن روحاني في سدة رئاسة الجمهورية والحكومة لإدارة شؤون البلاد، بدا أن التوجه الأساسي للمرشد وحوله النواة الصلبة لتحالف رجال الدين الأصوليين والمؤسسة الأمنية (الحرس الثوري) هو خوض معركة التشدد داخل النظام في مرحلة حساسة للغاية، أولها احتمال خلو موقع المرشد الأعلى، وبالتالي لا بد من حسم معركة الخلافة التي قد تشهد تخلخلاً في بنية النظام. وثانيها تراكم الأزمات من كل صنف وارتفاع منسوب الجرأة لدى المواطنين من خارج اصطفافات تياري النظام للخروج الى الشارع لإشهار احتجاجاتهم في مختلف القضايا الاقتصادية، المعيشية، الاجتماعية، والسياسية (بنسبة أقل).

ولعل أزمة مقتل الشابة مهسا أميني في 16 أيلول (سبتمبر) 2022 وموجة الاحتجاجات التي انفجرت إثرها لامست مستوى الثورة الاجتماعية – السياسية في البلاد، لا بل انها وضعت النظام أمام أزمة وجودية مع شرائح واسعة من المجتمع. وقد شهدت موجة الاحتجاجات انفجاراً لعامل الجرأة بوجه السلطات التي اندفعت الى القمع المفرط مستخدمة سلاح السلطة القضائية لمحاصرة الموجة الخطيرة.

وقد تكون موجة الاحتجاجات التي نتحدث عنها قد عمقت من التباعد بين شرائح اجتماعية واسعة ومتنوعة من المجتمع الإيراني وبين بنية السلطة المتشددة، مما يفسر الى حد ما هذا التخلي الواسع للمواطن الإيراني عن استخدام آليات و"ميكانيزمات" النظام ومؤسساته في عملية البحث عن تغيير، وإن محدوداً.

بناء على ما تقدم، وفي انتظار الدورة الثانية التي ستجرى يوم الجمعة المقبل بين مرشحَي المحافظين سعيد جليلي، والإصلاحيين مسعود بزشكيان، سيكون من المهم مراقبة ما ستقوم به السلطات الإيرانية لرفع نسبة المشاركة من 40 في المئة أقله بثمانية أعشار مئوية. هذا هو التحدي لشرعية النظام الشعبية، ولموقع المرشد على رأس الهرم.

والأهم أن تكشف الدورة الثانية عن جانب من الموقف الشعبي من السلطة ككل. أما من يفوز؟ فكلا جليلي وبزشكيان وبصرف النظر عن اختلافاتهما يمثلان تيارين من صلب النظام، وسقوفهما محددة سلفاً، وإلا ما كان مجلس صيانة الدستور أجاز لأي منهما أن يخوض الانتخابات المؤطرة أكثر من أي وقت مضى. في مطلق الأحوال يمكن القول إن الدورة الأولى كانت مفجعة للمحافظين والإصلاحيين على حد سواء.