وفي كتابه «مصير الصهيونية نحو مستقبل علماني لفلسطين وإسرائيل» (2003)، ينقل فيه بعض مشاعر الغضب التي انتابت ديفيد بن غوريون – أول رئيس وزراء لإسرائيل بعد تأسيسها عام 1948، بعد انتصار إسرائيل في حرب 1967، بعد أن شاهد اليهود يتهافتون ويتدافعون على زيارة حائط المبكى بعد احتلال القدس الشرقية. وعزى غضب بن غوريون إلى كونه حارب منذ شبابه، ليس من أجل البكاء عند حائط المبكى، وإنما لتأسيس دولة علمانية. فإن تأتي الرغبة في تأسيس دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة في نشوة النصر اليهودي في 1967 من قبل أستاذ جامعي وحاخام، وان تأتي مشاعر الغضب والسخرية من إقبال اليهود على حائط المبكى من «بطل الاستقلال» ديفيد بن غوريون (1886 ــ 1973)، يوضح أنه ليس فقط اليهود مختلفين في رؤيتهم لمستقبل العلاقة مع العرب والفلسطينيين، وإنما الصهاينة أنفسهم مختلفون. ويذكر هيرتزبيرغ في كتابه نفسه هذا أن بن غوريون، الذي كان متقاعدا في مزرعته في صحراء النقب، دعا إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأراضي، التي احتلتها مقابل السلام. فبالنسبة له السلام أهم من الأرض. فالحركة الصهيونية، ومنذ أن دعا هيرتزل إلى تأسيسها في مؤتمرها الأول، الذي عقد في بازل في سويسرا عام 1898، كانت مرفوضة من كثير من اليهود، ومن بين الرافضين لها شتيفان تسفايغ الروائي اليهودي النمساوي، لكن حتى من بين المؤمنين بالفكرة الصهيونية، لم تكن الصهيونية بالنسبة لهم خطة واضحة المعالم، بل هي نوع من الأيديولوجيا. فهناك كثير من اليساريين الذين آمنوا بالفكرة الصهيونية، أو هاجروا إلى إسرائيل، ثم هاجروا منها مرة أخرى إلى أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، لرفضهم تحوّل المشروع الصهيوني إلى مشروع استيطاني طارد للفلسطينيين. هؤلاء عندما هاجروا لفلسطين ظنوا أنهم سيشاركون في بناء وطن للعرب واليهود. وإن كانوا قلة، فالفكرة ليست بغريبة، وإنما يشار إليها في رواية نشرها هيرتزل نفسه، رأى فيها اليهود والعرب يعيشون في وطن واحد. ولا بد من التوضيح هنا أن المشروع الصهيوني انتصر في فلسطين ثقافياً وعلمياً قبل انتصاره العسكري. فقد تأسست الجامعة العبرية عام 1925، وشارك في الاحتفال بافتتاحها أحمد لطفي السيد – رئيس جامعة القاهرة – ممثلاً عن الحكومة المصرية. وقبل ذلك، وفي عام 1912، تأسس معهد إسرائيل للتكنولوجيا. وكلا الجامعتين ضمن قائمة أفضل مئة جامعة في العالم. ولاحظت أن أغلب العرب يعتقدون أن هاتين الجامعتين أسستا بعد تأسيس إسرائيل عام 1948، مما يعكس عدم معرفتنا بقدرات الطرف الآخر. وآخر أستاذ جامعي فلسطيني سألته عن تاريخ تأسيس الجامعة العبرية، أجاب أنها أسست عام 1950. هذا وقد زار فلسطين عام 1923 ألبرت آينشتاين، وحضر الافتتاح الرسمي لمعهد إسرائيل للتكنولوجيا، الذي كان قد بدأ عام 1912. وفي زيارته للقدس، ألقى آينشتاين محاضرة علمية باللغة الفرنسية، لم يفهمها أحد لموضوعها وللغتها. وربما لم يلقها بلغته الأم الألمانية، لأنها لغة المهزوم بالحرب العالمية الأولى. هذا وقد عيّن آينشتاين لاحقاً عضواً في مجلس أمناء الجامعة العبرية. هذا وكان آينشتاين إنساناً قبل أن يكون يهودياً. فعندما علم بمذبحة دير ياسين، التي حدثت في 9 إبريل عام 1948، واستشهد فيها 109 فلسطينيين، أرسل خطاباً يدين فيه الأفعال الشنيعة هذه، إلى شيبرد ريفكين Shepard Rifkin، الذي كان يشغل منصب رئيس جمعية لمناصرة المقاتلين اليهود، تضمنت التالي: «عندما تحل كارثة في فلسطين، فإن المسؤول الأول عنها تكون بريطانيا، ثم الارهابيين الذين ارتكبوا الجريمة، والذين ينتمون لنا. فأفيدكم أني لن ألتقي بأي من له علاقة بهؤلاء الإرهابيين». ولكم أن تتخيلوا ماذا كان آينشتاين سيكتب لو كان حياً، وشاهد بنفسه الوحشية التي يرتكبها الإسرائيليون بقيادة نتانياهو وبن غفير وسموتريتش. إن كان قد استنكر وأدان مذبحة دير ياسين، التي استشهد فيها 109 من الفلسطينيين، فلا شك أنه سيعتبر جرائم غزة بمنزلة المحرقة النازية. في 25 فبراير 1994، أطلق يهودي متطرف الرصاص على حوالي 800 فلسطيني، كانوا يؤدون صلاة الفجر في المسجد الإبراهيمي في الخليل، مما أدى إلى استشهاد 29 منهم، وجرح 125، وكان ذلك في شهر رمضان. اليهودي المتطرف هذا اسمه باروخ غولد شتاين، وتمكن المصلون من مهاجمته وقتله. وغولد شتاين من مواليد بروكلين في نيويورك عام 1956. وكان متأثراً بفكر يهودي متطرف آخر يدعى مائير كاهانا من مواليد بروكلين في نيويورك عام 1932، وقتل عام 1990، بعد أن أصبح عضواً في الكنيست الإسرائيلي، داعياً إلى طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية. وهذان الاثنان اللذان كانا مهمشين فكرياً في أول التسعينات، وصل من يمثلهما فكرياً إلى الحكومة الإسرائيلية عبر شخصيتي: إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية في حكومة نتانياهو. أما هذا الأخير، فقد ولد في القدس الغربية لأبوين علمانيين، وكان والده، الذي ولد في وارسو في بولندا، متخصصاً في تاريخ اليهود في الأندلس/ أسبانيا. وقد عاش خلال الفترة 1963 ــ 1967 في فيلادلفيا في الولايات المتحدة، عندما عمل والده أستاذاً للتاريخ في إحدى كلياتها. لذا فإن اللهجة الأمريكية، التي يتحدّث بها نتانياهو اكتسبت خلال تلك الفترة. أما اسحق رابين – رئيس الوزراء الإسرائيلي – الذي اغتاله متطرف يهودي عام 1995، بعد أن عقد معاهدة سلام مع ياسر عرفات، فقد ولد في فلسطين عام 1932 لأبوين هاجرا إليها من أوروبا الشرقية. وقد لعب دورا عسكريا رئيسا في حروب إسرائيل مع العرب في 48، 67، 73. ومع هذا فقد اعتبره بعض اليهود - لم يشهدوا أي حرب - متخاذلا في تحقيق الهدف الصهيوني. ومن ناحية أخرى، فإن أري شافيت، صاحب كتاب «وطني الموعود»، المترجم والمنشور من قبل «المؤسسة العربية للنشر» في عمّان، ولد في ريهفوت في إسرائيل عام 1957. وكتابه الشهير هذا معتز بالإنجاز الصهيوني في تأسيس الدولة، وناقداً لإسرائيل في الوقت نفسه. وفي كتابه الشهير هذا، يدخل في تفاصيل المذبحة، ثم التهجير لأهالي اللد الذين لم يرفعوا السلاح ضد اليهود. حتى إن هذا الفصل من الكتاب المخصص لمأساة أهل اللد، يمكن تحويله إلى سيناريو لفيلم ناجح. ويعتبر شافيت من يسار الوسط، وينشر في «هآرتز». أما أميرة هاس، والتي تكتب في «هآرتز» كذلك، فهي ناقدة أكثر للسياسة الإسرائيلية نحو الفلسطينيين، لدرجة أنها كرّست حياتها في الثلاثين سنة الماضية للدفاع عنهم. ولدت أميرة في فلسطين عام 1954، لأبوين نجوا من المحرقة النازية، فوالدتها من البوسنة، ووالدها من رومانيا، وهي دائماً تصرح بأن أبويها لم يكونا أبدا صهيونيَيْن، إنما وجدا نفسيهما لاجئَيْن في إسرائيل بعد نهاية الحرب. وقد درست أميرة الصحافة في الجامعة العبرية، وهي متشرّبة بالفكر اليساري، وانضمت إلى أسطول الحرية، الذي حاول فك الحصار عن غزة في عام 2011. والأهم من ذلك، فإن أميرة تؤمن بتأسيس دولة واحدة ثنائية القومية على أرض فلسطين. كل هؤلاء يهود وصهاينة إلى حد ما، لكن بدرجات مختلفة، أو بفهم مختلف لليهودية وللأيديولوجية الصهيونية. وما كان الفكر الصهيوني سيتشكل لولا اضطهاد ومذابح اليهود في الامبراطورية الروسية، التي امتدت إلى أكثر من مدينة خلال القرن التاسع عشر وإلى عام 1906. لذا لم يكن صدفة أن تكون أغلبية المفكرين والقادة الصهاينة من دول أوروبا الشرقية، التي كانت ضمن حدود الامبراطورية الروسية، والتي كانت من ضمنها أوكرانيا وبولندا. وهيرتزل لم يتوقع حدوث الهولوكوست، لكن هذا الحدث ساهم في تحويل الفكر الصهيوني الى فكر عدواني، وإلى التمادي والإيغال في عنصريته. لكن ليس كل اليهود، ولا حتى كل الصهاينة، عدوانيين أو عنصريين. فآينشتاين استنكر مذبحة دير ياسين، ودعا إلى سلام بين الفلسطينيين واليهود، ورفض عرضاً أن يكون رئيساً لإسرائيل بعد وفاة رئيس إسرائيل الأول عالم الكيمياء حاييم وايزمان عام 1952. وان كان رده أنه اعتاد أن يتعامل مع المادة، ورئاسة دولة تتطلب مهارة بالتعامل مع الناس، والتي لا يتميز بها. وهناك من اليهود من كرّس علمه وتعليمه لمحاربة الأسس الفكرية التي بُني عليها المشروع الصهيوني في فلسطين، مثل الإسرائيلي ايلان بابيه والأمريكيين نعوم تشومسكي ونورمان فنكلشتاين.
د. حامد الحمود
التعليقات