على مدى سنوات طويلة، قدمت دراسات نقدية لمجموعة من الشعراء الشعبيين، كان من بينهم سليمان بن حاذور، وسويلم العلي، وعبدالله بن صقيه، ورضا الشمري، وسليمان العويس، والفيحاني، وعبدالله السلوم وعبدالله بن عبار، ومساعد الرشيدي، وتنهات نحد وعبدالله بن دويرج. وعبدالمحسن العوهلي وسليمان المانع وأحمد الكندي وراشد بن جعيثن، وقد درست تلك المجموعات الشعرية على المنهج النفسي والتحليلي والتاريخي، والتي عادةً ما يحتكم إليهما النقاد في دراسة الشعر الشعبي. وقد يقول المولعون بالنقد القديم، وخصوصًا الذين تتلمذوا على مذهب ابن سلام، أو حتى النقاد الجدد الذين تتلمذوا على دروس أستاذ النقد الأدبي الدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا، إنني أهمل في دراساتي النقدية الاتجاهات القديمة وأغالي في الأخذ بمذاهب المحدثين، وأنني أصب الشاعر في قالب نفسي - إن جاز التعبير. وقد يقول طالب درس النقد الأدبي في إحدى الكليات أو الأقسام الأدبية: أين مكونات الشاعر الإبداعية؟ وأين تأثير البيئة؟ وعصر الشاعر؟ فأنا لا ألوم طلاب النقد الذين تأثروا بمدارس النقد الأدبي القديمة، ولقد عرفت تلك المدارس في أول حياتي الجامعية، ولكن تلك المدارس عفا عليها الزمن وظهرت مدارس نقد حديثة محت الأسلوب القديم. ولكن آمل ألا يفهم دعاة النقد القديم أنني ضد المدارس النقدية القديمة، فأنا أحيانًا ألجأ إليها في بعض دراساتي النقدية، وخصوصًا التي تتصل بالقصيدة العربية، وإن كنت أصرف النظر عن تلك المدارس حين أدرس القصيدة الشعبية. فالتكوين اللغوي والفني في القصيدة الشعبية لا يلتقي مع مناهج النقد القديم، فأقرب المناهج النقدية لدراسة الشعر الشعبي هي المنهج النفسي والتحليلي والتاريخي، وإن كنت لا أعني بالمنهج النفسي تلك الجلسات التحليلية النفسية التي قرأتها في مقدمة مجموعة الراحل متعب العنزي الشعرية. إذ لم تكن نفسي مرتاحة لتلك المقدمة التي كتبها د. عبدالله عمر في تقديمه لمجموعة الشاعر متعب العنزي «دمعة غريب»؛ فتلك المقدمة سلبت مني تلك الطاقة الذهنية في ذلك الصباح الرائع الذي أردت فيه أن أستكشف ما وراء دمعة غريب. يطالعك في أول المجموعة رأي نقدي جريء للدكتورة سميرة التويجري يمثل وصفًا منهجيًا للتجربة الشعورية لمتعب العنزي تقول الدكتورة سميرة: «هذا الرجل - تقصد متعب - ولد ولديه قدرة غير عادية على التعبير، إنه يلتقط كل ما يمر به ويحس به، وينفعل به، ثم يختزنه في بحر الذاكرة ويقوله في لحظتها، أو بعد قرن، يقول قصائد مفرقة في الشوق والشجن والدموع، هذا الرجل قال القصيدة عفوا وكما يتحدث كل الناس عن إحساساتهم بكلمات عادية يتحدث هو عما يجول في داخله فيتكلم شعرا وليس شعرا فحسب بل شعرا جميلًا فياضًا بالعواطف النبيلة، وشعرًا مقفى لا نجد في أبياته لحنًا أو كسرًا أو قافية غير مناسبة». لقد وقفت الدكتورة سميرة من خلال قراءاتها النقدية على التوترات النفسية، التي تعرض لها الشاعر حيث تصفه بأنه حزين ميال للكآبة، يشتاق وينكوي ولا تتحقق أحلامه، ولا تتبلور أمانيه حتى في قصائده التي تنشر الفرح، تراه يفرح لحظته ثم يخاف على اللحظة الفرحة أن يغتالها الحزن، يضيق بأحزانه، يتطلع إلى شعاع من الشمس في مياهه الباردة. كانت أول مرة أقابل فيها متعب العنزي هي المرة التي تأكد لي فيها أنني أقابل شابًا موهوبًا مثاليًا متفتحًا ذا نبل رفيع يظهر لك من ملامح شخصيته التلقائية والشفافية، كان يسير في ذلك الفناء الواسع مقتفيًا أثـر عبدالله نور، وحين جلس أصغى وأطال الإصغاء لتلك المسائل الجدلية المعقدة التي تفتق عنها ذهن عبدالله نور في ذلك المساء الصيفي. كان متعب في ذاك الوقت شديد الإصغاء لتلك الأحاديث الفلسفية التي تأتي عفو الخاطر، وشديد الإعجاب بأولئك المفكرين الذين يتمثلون الفلسفة والرزانة الفكرية في توجهاتهم ومنطلقاتهم، كان متعب منجذبا لتلك الجرعات الفلسفية والتي يحاول أن يملأ بها تلك الفراغات الكائنة في عقله، تلك مرحلة متقدمة جدا في حياة متعب. عجيب أمر هذا الشاب فلو لم يكن شاعرا لكان فيلسوفا، ولربما صار شيئًا آخر فوق الفلسفة، ولكن الشعر أراحه من مذاهب وطرائق شتى. مر متعب بحياة كلها بؤس ويأس واضطراب، عاش متعب النفس كسير الخاطر رمت به الحياة بين محطات الاغتراب، ولكنها صنعت منه شاعرًا ملتهب العواطف رائع الإحساس. كانت طفولته وربما بدايات شبابه رحلة معاناة، خرج منها واثق النفس واضح الاتجاه كان الشعر رفيقه لا لكي يسلي ربات الخدور، ولكن ليروي ظمأ السنين كانت أحلامه دائما تتكسر بالعوز الحسي والعوز النفسي، وكانت الكوابيس المزعجة غولا يصادر أحلامه وكان الشعر رفيقه في الدروب الحزينة القاسية. صور كئيبة مرت من أمام متعب أو هو أمامها عرضها في صور شعرية مؤلمة وحزينة. ولكن هل لو كان متعب مترف الصبا، ناعم الطفولة، هل كنا سوف نهتدي إلى هذا الشعر الرائع الجميل؟ أكاد أشك في ذلك. ولكن الشيء الذي لا أشك فيه أبدًا أن الألم والمعاناة ينتجان شعرا ويخلقان شاعرا، كان متعب قريبا إلى الواقع في التعبير عن آهاته الحزينة، كان الشعر صوته وضميره، كان أحيانًا عندما تتعب نفسه يأوي إلى ركن من أركان بيته القديم، أو تأخذه قدماه المثقلتان إلى زاوية من تلك الزوايا المحطمة ليهيض عما في خاطره، ولكنه ترك لنا ملاحم شعرية. متعب شاعر دافئ الفؤاد قريب الشبه بتلك الطيور الأليفة الغريبة التي تكسر الأشياء الصلبة لتحيلها إلى أوكار دافئة قدره قدر الشعراء الذين أوجعتهم الحياة حتى أضاءت أرواحهم. وإذا كانت متعب لين القلب شمالي الطبع فمن أين له هذه المتاعب. ولكنها الغربة والمعاناة فقد كانت مشاريعه الوجدانية تتكسر على مسرح الأحزان. ولكن يظل متعب على أي حال - كما يقول عبدالله نور حزمة من ذرور الشمس الشمالية أو رغوة دافئة من أحاليب اللقاح.