ولأن الفلسفة ترعرعت وسط أحضان الأسطورة، في مجتمعات بشرية آمنت بجملة من الأساطير والمعتقدات تجاه الطبيعة، وفهم أفكار الفلاسفة يتطلب الرجوع إلى الوراء، إلى التاريخ القديم، لفهم نفسية الشعوب البدائية، وهو الأمر الذي أعطاه عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد حيزا من الاهتمام في كتابه: (الطوطم والتابو). في الفصل الذي يحمل عنوان (الأرواحية والسحر وطغيان الأفكار).

يقول فرويد واصفا الأرواحية في كتابه: «الأرواحية -في المعنى الضيق للكلمة- هي علم التصورات الروحية، وفي المعنى الواسع علم الكائنات الروحية عامة. ويميز المرء الأحيائية، وهي علم حياتية الطبيعة التي تبدو لنا غير حية، ويدخل في هذا الإطار تقديس الحيوانات وعبادة الأجداد». في هذا الفصل تحديدًا، أراد فرويد أن يناقش مفهوم الروحانية أو الإحيائية (Animism) وهي أن الأشياء والمخلوقات كالصخور والأنهار والنباتات ذات جوهر روحي متميز، بمعنى أنها تمتلك نوعًا من الإرادة يجعلها لا تختلف جوهريًا عن المخلوقات الحية. وهذه الأرواحية أو الأحيائية حسب اعتقاد كثير من العلماء الغربيين، ومنهم فرويد، تمثل الشكل الأكثر بدائية للدين في المجتمعات البشرية. وهذا اعتقاد ينقصه الدقة، فعقيدة التوحيد موجودة منذ فجر الإنسانية وكانت عقيدة جوهرية للأديان السماوية كافة منذ عصر أبينا آدم عليه السلام، ولم تكن نتيجة تطورية لفكرة الأرواحية أو الأحيائية. نعم كان مفهوم الأرواحية الشكل الأكثر بدائية لعقيدة وحدة الوجود التي أصبحت فيما بعد نظاما فكريا كاملا ينطوي على جملة من العقائد والأساطير بدايتها كانت مع الإنسان البدائي وتصوره تجاه الكون. فالطبيعة ومظاهرها حسب اعتقاد الإنسان البدائي تسكنها الأرواح وتمتلك إرادة أقرب لإرادة الإنسان، ومن هنا نشأت أفكار الفلاسفة التي تمحورت حول عقيدة وحدة الوجود باعتبار أن الكون والإله يمثلان جوهرا واحدا.

ونشأ معها الخلاف التاريخي بين الفلاسفة وأتباع الأديان السماوية. الفلسفة عبارة عن مجموعة من التصورات الروحية ذات بعد ديني. والطبيعة وإن كانت فانية ومخلوقة من العدم حسب تصور الأديان التوحيدية فإنها وفق تصورات الفلاسفة تبدو حية بل وإلهية، وهناك عقائد دينية آمن بها كثير من الفلاسفة ومن يطلق عليهم وصف (المشاؤون العرب) تتوافق مع روحانية الكون والطبيعة. فقد آمنوا بعقيدة الفيض الإلهي وتأسست نظرياتهم وأفكارهم على أساس نظرية الفيض وانعكست على فهمهم لنشأة الكون والوجود. وقد وجدت هذه الأسطورة حاضنة فكرية واجتماعية في المجتمع العربي القديم عند الشعوب الداخلة حديثا للإسلام.

الفكرة البدائية للشعوب البدائية التي ترى العالم مسكونا بعدد لا يحصى من الأرواح التي تتحكم بقوانين الطبيعة تطورت بشكل كبير وأصبحت نسقا فكريا يبدو للوهلة الأولى أنه عقلاني ومتفرد ولكنه في واقع الأمر مجرد عقائد وثنية ذات أصل بدائي وأسطوري. في كتاب (علم الأخلاق) للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، وهو من الكتب الهامة في مجال الفلسفة ومن الكتب المقروءة على نطاق واسع بين المهتمين بتراث الفلسفة. مع أنه في الحقيقة مجرد محاولة لشرح وتأويل عقيدة بدائية وهي وحدة الوجود. استخدم سبينوزا أسلوب الرياضيين في الهندسة لمعالجة مواضيع ليست رياضية. وهنا نلحظ كيف استطاع أنصار هذه العقيدة صبغ عقيدتهم بهذا الأسلوب الذي يبدو في ظاهره أنه علمي ومنهجي وعقلاني مع أنها عقيدة بدائية لا يمكن إثباتها علميا أو منطقيا أو إضفاء طابع العلمية عليها.

لم تتطور الأديان التوحيدية من الأرواحية أو تنبعث من تربتها الفكرية، فسياقات الأديان التوحيدية مختلفة جوهريا عن الأرواحية أو فكرة وحدة الوجود، وهذا يمكن أن يفسر الصراع الفكري الذي قد يصل مستوى العنف والإقصاء بين الأديان التوحيدية والأديان الوثنية. التصورات البدائية تجاه الطبيعة والخوف منها ومن غضبها وتقلباتها كانت النواة الأولى للنظام الأرواحي الذي يضفي القداسة والسحر على الطبيعة ومظاهرها.