في ظل المخاوف من احتمال تمدد الحرب الحدودية بين إسرائيل و"حزب الله" الى كل لبنان، وتسليط الأضواء على محاولة اغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في بنسلفانيا، والتدقيق في مصير القائد العسكري لـ"حماس" في غزة محمد الضيف الذي يقول الجيش الإسرائيلي إنّه استهدفه في خان يونس، والأسئلة التي يطرحها المهتمون عن مستقبل فرنسا في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، وصراع الأزقة في الضاحية الجنوبية الذي بات هو الآخر يُنتج "شهداء لحزب الله"، وفق ما حصل في حي ماضي، لم ينجح السفير الفرنسي في لبنان هيرفيه ماغرو في لفت الانتباه الى مضمون الكلمة الطويلة التي ألقاها في حفل الاستقبال الذي أقامه في مقر إقامته في قصر الصنوبر في بيروت، في مناسبة حلول "اليوم الوطني" في بلاده، على رغم أهميّة دلالاتها، إذ إنّه الدبلوماسي الوحيد الذي سلّط الضوء على تلهّي اللبنانيين عن مشاكلهم الحقيقية بالاكتفاء بالمظاهر "الخادعة".

وقال ماغرو: "في بعض الأحياء نرى سيّارات فارهة وصالات خارجيّة مكتظّة في المطاعم ومتاجر لبيع السّلع الفاخرة. قد تدفعنا هذه النظرة السّطحيّة إلى الاعتقاد بأنّ الاقتصاد قد تحسّن، ولكنّ الأمر ليس على هذا النحو أبداً، خلافاً لانطباع شائع على نحو مُستغرب. الأمر ليس على هذا النحو لأن الاقتصاد اللبناني يكتفي بالبقاء على قيد الحياة والفضل بذلك يعود بشكل كبير إلى تحويلات المغتربين التي تدعم الاستهلاك، وإلى السياسة الجديدة الأكثر حذراً التي يطبّقها المصرف المركزي اللبناني. الأمر ليس على هذا النحو لأن القطاع المصرفي ما زال متوقّفاً والصادرات ما زالت تتراجع وصيانة البُنى التحتيّة غير ممكنة، وبخاصّة لأنّ نصف الشعب يعيش تحت خطّ الفقر. ولكن الجميع يعرفون طريق الإصلاحات التي يجب سلوكها لوضع الاقتصاد اللبناني على السّكّة الصحيحة".

ولكن على فرض أنّ كلمة ماغرو لم تهمّشها الأحداث الكبرى الممتدة من بنسلفانيا الأميركية الى حي ماضي اللبناني، هل كان يمكن أن يكون لها أيّ أثر حقيقي على الواقع اللبناني؟

طبعاً لا. ماغرو يتصرّف انطلاقاً من ثقافته السياسية الفرنسيّة التي تقوم على "النق"، إذ إنّ المستويات الحزبية والاقتصادية والمالية والمؤسساتية والشعبية والنخبوية في "بلاد الغال" لا تنظر الى المكتسبات، بل تركز على النواقص، ولا تهتم بنقاط القوة، بل تسلّط الضوء على نقاط الضعف، خلافاً لما يحصل في "بلاد الأرز" التي لو كانت عقليتها مثل العقلية الفرنسية لكانت حاليّاً إما خارج خريطة الدول أو جنّة من جنان هذه الأرض.

تخيّلوا معي ماذا كان قد حصل في لبنان، لو أنّ بلدية بيروت نظمت حدثاً ضخماً ومبدعاً في مناسبة العيد الوطني اللبناني كذاك الذي أشرفت عليه بلدية باريس، مساء أول من أمس الأحد، في مناسبة "يوم 14 تموز/يوليو"، حيث تمّ ملء الفضاء الباريسي بلوحات تحاكي قرب افتتاح الألعاب الأولمبية في السادس والعشرين من تموز الجاري، في عمل فنّي مبدع وخلّاب ومميّز، تزاوجت فيه الأضواء والمفرقعات والدرونز والموسيقى. لو شهد لبنان هذا الحدث، لكانت امتلأت الدنيا بالحمد للحكومة والتمجيد للمشرفين السياسيين على البلدية وتناسى اللبنانيون أزماتهم الوجودية، وليس أدل على ذلك من تلك الحفلات الفنية التي كانت تقيمها بلدية بيروت أو تلك السهرات التي صار يحييها، كل سنة مرة، الفنان المصري عمرو دياب.

في فرنسا، حيث عاش وترعرع وتعلّم وتخرّج السفير الفرنسي، مرّ هذا الحدث الاستثنائي كأنّه "واجب لا بد منه"، وبقي الفرنسيون في همومهم المعيشية، والسياسية، والحكومية، والاجتماعية.

بهذه العقلية يقارب ماغرو باستغراب ما يحصل في لبنان، حيث يتغاضى اللبنانيون عن الأخطار الآتية من الجنوب، وعن الفراغ الرئاسي المتمادي، وعن "مقاومات" الأزقة وعن غياب الإصلاحات المالية والاقتصادية البنيوية وعن وقوع أكثر من نصف الشعب تحت خط الفقر، وعن استمرار حجز الودائع المصرفية، وعن إفلات المجرمين من العقاب، وعن تدهور الخدمات العامة واهتراء البنية التحتية، ليمجدوا مظاهر الرخاء الخادعة التي تقتصر في الواقع على "بعض الأحياء" وتحديداً على ما بات يسمّى في لبنان بـ"الكيلومتر الذهبي".

هل السفير الفرنسي محق في تحذيراته التي تستر مخاوف فرنسا من التداعيات الخطرة لـ"سلوك النعامة" الذي يعتمده اللبنانيّون؟

على المستوى العلمي، نعم هو مصيب، فإهمال الحقائق اللبنانية من شأنه أن يراكم السلبيات، وما إن يتخلّص اللبنانيون من تأثير "المخدر" حتى يجدوا أنفسهم في مأساة أسوأ من تلك التي "تعايشوا" معها.

ولكن على المستوى العملي، يخطئ ماغرو، فاللبنانيّون بعدما أدركوا أنّهم لا يملكون القدرات اللازمة لتغيير واقع الحال الصعب، حيث تتواطأ طبقة سياسية عاجزة هنا وفاسدة هناك مع ميليشيات مسلّحة بعضها أكثر تسلّحاً من الجيش اللبناني نفسه، وفي ظل مباركة دولية "ضمنية"، قرروا تفعيل الحكمة التفاؤلية القديمة: "أنظر الى الجزء الملآن من الكوب".

لقد استعان اللبنانيون، في عزّ أزمتهم بالفرنسيين، واستقبلوا رئيس جمهوريتهم إيمانويل ماكرون بنثر الورود والرز والسجادة الحمراء، بعدما قدّم نفسه لهم على أساس أنّه "البطل المنقذ"، ولكنّه، وفي خريطة طريق تحاكي الأساليب اللبنانية السابقة التي أوصلت الى الكارثة، خيّب آمالهم وتطلعاتهم، بعدما كان قد أخمد روح الثورة التي سبق أن اشتعلت فيهم. هذه الثورة التي كانت قد منعت الطبقة السياسية من أن تعيش على هواها في لبنان، والأثرياء من أن ينشروا مظاهر البذخ في "بعض الأحياء".

وعليه، لم يبق أمام اللبنانيّين، وبعد تراكم الخيبات من الداخل والخارج، سوى الركون الى الحكمة التفاؤلية، خصوصاً أنّ من انتقد البذخ وغير الإصلاحيين نظم حفل استقبال يحاكي البذخ من جهة ويخصص المقاعد الأمامية لأسباب العلّة اللبنانية، من جهة أخرى!