في رسالته الأخيرة بعد اكتمال عقد المجلس النيابي الجديد، حيث كانت مفاجأة حصول اليسار الموحّد على الكتلة البرلمانية الأكبر، والتحالف الماكروني على الكتلة الثانية، و«التجمّع الوطني» اليميني على الكتلة الثالثة، يذهب الصديق، المفكر والأديب الفرنسي، بعيداً في مكاشفته. فهو يتحدّث عما سماه «المرض الفرنسي». ليس بمعنى «مرض العصر» الذي كان ينتاب الرومنطيقيين في القرن التاسع عشر، ويملأ نفوسهم كآبة، بل ما يعدّه حال الغموض الراهنة في المجتمع الفرنسي، التي تقلقه كثيراً. ويذكر الصديق الفرنسي في مستهل رسالته أن إقامته لسنوات في «بلاد الأرز» ضمن مجتمع معقد، تعاني جماعاته المتعددة مشكلة الهوية، وتدفق اللاجئين والنازحين إليه من الجوار، قد أغنى نظرته إلى مجتمعه الفرنسي، وحرّره ممّا يسميه «المثالية» في رؤية كثير من الأوروبيين إلى الشعوب الأخرى، الأقرب برأيه إلى السذاجة.

هو يرى أن النتيجة الأهم لهذه لانتخابات النيابية بروز «اتجاهين أساسيين متعارضين بالكامل في المجتمع الفرنسي» (وليس اتجاهات ثلاثة، يسار ويمين ووسط، كما في الظاهر). ذلك أن «الحلف الجمهوري»، أي تحالف جميع القوى السياسية الفرنسية بلا استثناء لمواجهة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتشدد، لا يعبّر عن مصالح انتخابية آنية وعابرة فقط، بل عن واقع سياسي ثابت أيضاً. إن «الحلف الجمهوري»، من اليمين المعتدل إلى أقصى اليسار الراديكالي، مروراً بالأحزاب الوسطية الأربعة الملتئمة حول ماكرون، إلى الحزب الاشتراكي، إلى الحزب الشيوعي، إلى الخضر، إلى حزب «فرنسا العصية» بزعامة ميلانشون، هو حلف التمسك بالتركيبة القائمة والتعامل معها. فجيرار لارشيه، اليميني الكثير الاعتدال على رأس مجلس الشيوخ، والرئيس ماكرون، والرئيس الأسبق فرنسوا هولاند، وجان - لوك ميلانشون اليساري المتشدد، وسواهم، هم في الحقيقة على مركب واحد، إن غرق غرقوا.

ويوضح الصديق الفرنسي كيف أن «كلاً من هذه الأطراف المتناقضة على سطح المركب، يجني من الوضع القائم ما يناسبه: ميلانشون يشجع على الهجرة الكثيفة (العام الماضي، نصف مليون مهاجر) ويرى فيها «أمل فرنسا»، كما يرى فيها ضمناً خزاناً بشرياً لا ينضب من الأصوات في الحاضر والمستقبل تصب في اليسار المتشدد، وتؤسس لـ«فرنسا الكريولية» الملوّنة الطامحة إلى إغراق «فرنسا الفرنسية» في بحيرتها العاتية. أما جيرار لارشيه وأقرانه في اليمين المعتدل فهم يعتقدون ضمناً أن مشكلة الهجرة لا حلّ لها، ولا قدرة لهم على مواجهتها، والمهم الاستفادة قدر الإمكان من الوضع القائم لتأمين مصالحهم ومصالح بورجوازيات المدن و«الضواحي الراقية» التي يمثلونها. وماكرون وأحزابه يفكرون بالطريقة نفسها، مع اهتمام الرئيس الفرنسي ومعظم صحبه بتأمين مصالح الرأسمالية الكبرى، عابرة الحدود والسدود والقوميات. وهولاند والاشتراكيون، وإن انتقدوا تماهي الماكرونية مع الرأسمالية الكبرى، وإن دعوا إلى سياسة اجتماعية لمصلحة الفئات الدنيا (مثلهم مثل حزب ميلانشون والحزب الشيوعي...)، فهم يمارسون سياساتهم وفقاً لقواعد الوضع القائم منذ أربعين عاماً، ويأخذون منه ما يلائمهم.

في وجه هذا «الحلف الجمهوري» الشامل، يقف «التجمع الوطني» اليميني وحيداً، داعياً إلى «قلب الطاولة»، بحثاً عما يسميه «النهضة القومية الفرنسية»، لتنظيم الهجرة أو إيقافها، ومعالجة الجزر الأمنية الكثيرة في البلاد، لاستعادة «هوية فرنسا ومنعتها»... إنها لمغامرة كبرى، يصعب إدراك نتائجها واهتزازاتها إن حصلت.

وتتعدى هذه المغامرة حدود فرنسا لتطول المجموعة الأوروبية التي «للتجمع الوطني» مآخذ كثيرة عليها. ويتفهم الصديق الفرنسي كثيراً من هذه المآخذ. لكنه يرفض بشدة تعاطف «التجمع الوطني» مع روسيا بوتين، وعدم اكتراثه بمصير أوكرانيا وسائر شعوب أوروبا الشرقية التي تحررت من السطوة السوفياتية. فهو لا يفهم إطلاقاً كيف يمكن القوميون الفرنسيون ألا يدعموا بشدة القوميين الأوكرانيين والبولنديين وسواهم في «معركة الحرية»، وكيف يمكنهم تجاوز مئات الآف القتلى الأوكرانيين، وغض الطرف عن التضحيات الهائلة التي «تقدمها هذه الأمة اليوم ثمناً لحرية شعوب أوروبا جمعاء».

وتشير الرسالة إلى أن الحضور اليساري البارز في المجلس الجديد، خصوصاً حزب ميلانشون، من شأنه تعزيز الإنفاق الاجتماعي لصالح الفئات الدنيا. لكن إلى أي حد تتحمّل الموازنة الفرنسية، الغارقة في ديون هائلة، هذا الإنفاق؟ وهذا الحضور نفسه سيعزّز الهجرة إلى فرنسا، وسيعزّز أيضاً سيطرة المهاجرين على كثير من الأحياء والضواحي، وما يتركه ذلك من تفاعلات على سطح المركب.

وينهي الصديق رسالته بمثل فرنسي يقول: «حيث الغموض، يكون الذئب».