كانت الدعوة مغرية فوق الاحتمال. مهرجان لأفلام يقام في غابة على حدود باريس. يبثّ التلفزيون مقابلاتٍ ترويجية خلابة مع النجوم. ترى الممثلة جولييت بينوش ترتدي قميصاً سماوياً وتجلس تحتَ أشجار تتهدل أغصانها، مُلقية بالظلال على ملامحها الناعمة. تسمعها تدعوك بصوت ناعم: تعال إلى الغابة ليلاً لتسترخي بين الزان والصفصاف وتشاهد السينما. سيكون كل ما حولك أخضر. هل هناك أجمل من أن يداعب وجهك غصن وتعلق بشعرك وريقات وأعشاب؟
كلامها ذكّرني بصديقتي الأستاذة الجامعية التي تجمع بين رصانة العلم وشفافية الكائن اللماح. قالت في لحظة مكاشفة إنها اختارت زوجها لتمضي معه حياتها من بين آخرين تقدموا لها في صباها. كان الشاب الذي أزاح غصناً اعترض وجهها في الحديقة. تركها تمر بسلام، بدون خدش.
الساعة تقترب من انتصاف الليل وشمس صيفهم تغرب متأخرة. حان وقت السينما. والكرسي الخشبيّ الواطئ من الكتّان يشبه مقاعد الشاطئ. تتحكّم في ارتفاع ظهره وتترك نفسك لتجربة مختلفة. لا بحر هنا ولا رائحة يود ولا تردد أمواج. أنت في حضن أخضر يفوح بعبق تربة خصبة. تتفرج على شاشة مضاءة بالجمال وسط العتمة والسكون. تغمض عينيك وتتمنى ألا ترى طرزان في الغابة بل العظيمة كاترين هيبورن، على ضفة البحيرة الذهبية، تلاحق العجوز العصبي هنري فوندا بنظرات تحيل النار رماداً.
يقام المهرجان خلال الصيف في أكثر من غابة على امتداد البلاد. كل العروض بالمجان. الهدف توعية أمثالي من الجهلة والمغفلين بمحنة هذه المساحات التي تتقلص فيضيق الشهيق في الكرة الأرضية. كان عدد مزارع فرنسا مليونين بعد الحرب الثانية لم يبق منها سوى نصف مليون. هناك 200 مزرعة تختفي كل أسبوع. كل سبعة أيام. يُشهر أصحابها إفلاسهم أمام منافسة المحاصيل الخارجية. أو يكبرون ويتعبون ويتقاعدون ويرون أبناءهم يهجرون الريف إلى المدينة. يفضّل أحفادهم الهامبورغر على حساء اليقطين.
كان ابني في السابعة حين أخذوه مع رفاقه في المدرسة لقضاء أسبوع في غابة. هاج قلق الأم وأردت الاعتراض. أين سينام وماذا سيأكل ومن يحميه من الكواسر والوحوش؟ ضحكت مديرة المدرسة الفرنسية وقالت إن على الولد أن يخرج من غابة الأسمنت التي نعيش فيها، وأن يتعرف على الطبيعة، أمنا الحنون. لن تفترسه دبّة لكنه سيقترب من أعشاش الحمام ويتذوق ثمار الجوز ويقشّر الكستناء ويلمس أجنحة الفراشات. عاد الولد ومعه باقة أعشاب مجففة، هدية لي.
الغابات والصحاري لا تطلع إلا من مخيلة فنان فذ. رأيت تقريراً عن صحراء في تشيلي، جنوب الكرة الأرضية، كانت الأكثر جفافاً على كوكب الأرض. ثم أمطرت السماء فجأة وتزينت الكثبان الرملية بأزهار بنفسجية تشبه تويجات الزعفران. هل كان صديقنا الروائي إدوار الخرّاط يتصور المعجزة حين كتب عن الإسكندرية «ترابها زعفران»؟
التعليقات