إنه سؤال الساعة في العالم كله، لا في الولايات المتحدة وحدها بقدر الدور الذي تلعبه في أزماته وحروبه.
على إثر الصورة الكارثية، التي بدا عليها الرئيس جو بايدن في المناظرة التي جمعته مع غريمه دونالد ترامب، كان استبدال الجياد أمراً محتماً.
حسمت الأمور سريعاً لصالح نائبته كامالا هاريس. لم يكن الحزب يحتمل منازعات جديدة على من يخلف بايدن والانتخابات تطرق الأبواب، وإلا فإن الهزيمة مؤكدة.
كان اختيارها إجبارياً من دون رهانات كبرى على قدراتها بالنظر إلى حضورها الباهت في ظل بايدن.
المفاجأة الحقيقية أنها أعادت اكتشاف نفسها عندما أخذت تتحرك كرئيسة محتملة لأكبر قوة دولية.
بدت أكثر ثقة بقدرتها على إلحاق الهزيمة بترامب، الذي يمثل هاجساً مقيماً بأوساط الحزب الديمقراطي أن يعود مجدداً إلى البيت الأبيض.
بأسرع من أي توقع؛ أخذت السمت الرئاسي، وامتطت موجة الرهان الاضطراري عليها. تحدثت كمدعية عامة سابقة عن الرئيس السابق ك«مجرم» ثبتت بحقه اتهامات مخلة بالشرفين الشخصي والسياسي.
بصورة قياسية تدفقت الأموال في خزينة الحملة الانتخابية في اليوم الأول لطرح اسمها.. كان دعم بايدن داعياً جوهرياً في قطع الطريق أمام الذين حاولوا منازعتها على الترشح باسم الديمقراطيين بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
تبارت رموز الديمقراطيين وقيادات أوروبية ودولية في الإشادة المفرطة ببايدن ووصف فترة ولايته ب«الاستثنائية».
بالمفارقة فإن أغلبهم دعوا إلى، أو تمنوا خروجه من السباق الانتخابي خشية خسارته على خلفية حالته الصحية والإدراكية.
لدواعٍ انتخابية استهدف المديح الزائد الحفاظ على وحدة الحزب أمام دعايات ترامب، الذي دأب على وصفه بأنه أسوأ من تولى المنصب الرئاسي قبل أن يلحق السوء نفسه بنائبته هاريس.
على بعد مئة يوم من الانتخابات الرئاسية الأمريكية فإن كل شيء محتمل ووارد.. لم تعد الانتخابات محسومة لترامب سلفاً ولا صعود هاريس مستبعداً.
حسب استطلاعات الرأي العام الأمريكية، فإن نسبة تأييد المرشحة الديمقراطية بين الشباب تصل إلى نحو 60%، غير أن المعركة الانتخابية سوف تظل مفتوحة حتى إغلاق لجان الاقتراع.
في البداية سخر ترامب من ترشيحها، لكنه اكتشف سريعاً أنها لن تكون لقمة سائغة.
دعا إلى مناظرتها لعله ينجح في وقف ظاهرتها من أن تتمدد وتحسم الانتخابات قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
بالمفارقة فإنها تصل إلى الستين من عمرها في 20 أكتوبر/ تشرين الأول، قبل الانتخابات الرئاسية بأيام قليلة، فيما هو يكون تجاوز الثامنة والسبعين.
كأن السحر ينقلب على الساحر، فهو بحكم الزمن مرشح لتكرار سيناريو بايدن إذا ما دخل البيت الأبيض مجدداً.
إذا انتخبت هاريس لن تكون نسخة جديدة من «بايدن». هناك ما هو ثابت بحكم المصالح والاستراتيجيات شبه الراسخة، وهناك ما هو متغير بحكم طبائع الرئاسات والأولويات التي تتبناها وقدر ما تتمتع به من كفاءة.
بايدن وهاريس خياران متباينان. الأول، ابن المؤسسة الأمريكية ويلتزم حقائقها ومصالحها. الثانية، مدعية عامة سابقة ونائبة مخضرمة، جاءت من أصول أفروآسيوية.
على وجه آخر، فإن ترامب وهاريس خياران متناقضان. أولهما، يمثل اليمين الشعبوي.. وثانيهما، يمثل النزوع اليساري.
لن تمضي هاريس على خطى بايدن في الأزمات والحروب التي أدارها. ستحاول أن تتخفف من نزعته العسكرية المفرطة في حرب أوكرانيا وغزة دون تعديل في التوجهات الرئيسية.
تقف، مثل بايدن، مع ترسيخ التحالف الغربي، ممثلاً في حلف «الناتو»، ودعم العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين وحصار روسيا تحت سقف عدم التورط في صدام عسكري معها.
لن تمضي، مثل ترامب، في تسوية سريعة للأزمة الأوكرانية، وقد تحاول عكسه أن تتخفف من درجة التحالف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
كان لافتاً تجنبها المشاركة في الجلسة الخاصة، التي تحدث فيها نتنياهو أمام مجلسي الكونغرس، بذريعة التزامها بمؤتمر انتخابي في الوقت نفسه.
أرادت عن قصد سياسي ألا يجمعها مشهد احتفالي واحد مع نتنياهو، أو أن تكون طرفاً في تظاهرة جمهورية تدعم سياسته العنصرية، أو أن تسيء إلى صورتها أمام جمهورها الانتخابي.
كان ذلك داعياً لهجوم ساخط عليها من جمهوريين استدعوا نتنياهو لإحراج بايدن بدعوى منع السلاح عنه لإلحاق الهزيمة الكاملة بالمقاومة الفلسطينية.
كانت تلك مغالطة مع الحقائق ومناكفة انتخابية بالوقت نفسه. بالأرقام، غاب نحو ثلثي الديمقراطيين في مجلسي الكونغرس عن حضور تلك الجلسة.
بدت الجلسة استعراضاً سياسياً متهافتاً أخذ فيه نتنياهو يمتدح بطولات الجيش الإسرائيلي وحرصه على حياة المدنيين؛ مكيلاً الاتهامات لخصومه ومعارضيه الأمريكيين المتظاهرين أمام مبنى الكابيتول ضد زيارته.
وُصف كل من يعارض حرب الإبادة على غزة ب«معاداة السامية»، ونالت التهمة نفسها من المحكمة الجنائية الدولية، التي تنظر في استصدار مذكرة توقيف بحقه.
بدت هاريس في لقائها مع نتنياهو بالبيت الأبيض حريصة على التوازن المحسوب بين تأكيد الالتزام التقليدي بأمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، وبين الموقف الأخلاقي والسياسي الذي استدعى أن تقول بصراحة لافتة: «لن أصمت على معاناة الفلسطينيين في غزة».
اختبار غزة يدخل في صميم السباق الانتخابي الأمريكي، وهذه مسألة تتعلق بمستقبلنا ومصيرنا.
التعليقات